شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الفتوى بين التيسير والتشدّد ..
كان لانغلاق المسلمين في أواخر الحقبة العثمانية، ثم انفتاحهم المفاجئ على حضارة الغرب، دور هام ومؤثّر في حضارة الإسلام اللاحقة واتّصالها بالحضارات التي سبقتها، فلولا جهود ابن حيان، والرّازي وابن الهيثم والفارابي، وابن سينا، والخوارزمي، وابن رشد، والغزالي وغيرهم، الذين لعبوا دورًا هامًا في نقل علوم الإغريق والسريان، وأضافوا إليها إضافات حضارية موثّقة، لولا جهودهم وتطبيقهم للمنهج العلمي والتجريبي في التّعامل مع حقائق هذا الكون والنّظام الدقيق الذي أودعته فيه القدرة الإلهية الفاعلة في كلّ شأن من شؤون الحياة لما تمكّنت أوروبا من الإمساك بزمام هذه الحضارة، التي اضطر المسلمون بسبب انغلاقهم الحضاري الذي همّش دورهم من مبدعين في الشأن الحضاري لمتلقّين له أو منفعلين بآثاره، فكانت من نتائج ذلك كلّه النّزعة التوفيقيّة بين العلم الحديث وبعض الآراء الاجتهاديّة التي اكتسبت صفة القداسة، مع أنّه ليست من الأصول والثوابت، وأمّا القرآن الكريم في نصّه المُنزل على الرسول صلّى الله عليه وسلّم فلا خلاف حوله من السّابقين واللاحقين، فهذا المفكّر الفرنسي المعروف د. موريس بوكاي يقول عنه برؤية علمية وموضوعية ومحايدة ما نصّه: (لقد قمت بدراسة القرآن الكريم وذلك دون أيّ فكر مسبق، وبموضوعيّة تامّة باحثًا عن درجة اتّفاق نصّ القرآن ومعطيات العلم الحديث. وبفضل الدراسة الواعية للنّص العربي استطعت أن أحقّق قائمة أدركت منها أنّ القرآن لا يحتوي على أيّة مقولة قابلة للنّقد من وجهة نظر العلم الحديث). [انظر: القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم. د. موريس بوكاي، ط2، 2004م، ص 17].
في حقبة ماضية حاول البعض أن يقدّم تفسيرًا علميًّا للقرآن. ويتعسّف في محاولة لفهم عصري للقرآن، متناسيًا أنّ القرآن ليس كتابًا في علم من العلوم الحديثة، ولكنّه كتاب هداية من خالق هذا الكون لعباده، وبه إشارات علميّة تعتبر واحدة من ضروب إعجازه الذي تحدّى الله به من يشكّكون في نبوة خاتم النبيين والمرسلين عليه صلاة الله وسلامه.
كما حاول البعض أن يوائم بين بعض آراء الإسلام في العدالة الاجتماعية وأنظمة أو تيارات بشرية بزغت يومًا ثمّ تلاشت، وخلص الذين انتهجوا هذا النهج التوفيقي أيضاً بعد حين إلى خطأ هذا المنهج الذين اتّبعوه بحسن نيّة وسلامة مقصد، وتصدّى للفتوى في الماضي رجال من أهل العلم الشرعي من جميع المذاهب الإسلاميّة، وفي العصر الحديث نجد فتاوى المشايخ رشيد رضا، والشيخ شلتوت، والشيخ الشعراوي، والشيخ ابن عثيمين، والشيخ محمّد الحامد، رحمهم الله.
ولكن بروز سياقات حضاريّة وفكريّة وسياسيّة جديدة في المجتمع المسلم أدّت إلى زيادة في معدّل الفتاوى الشرعيّة، مع أنّ السلف كان يتهيّب الفتوى، ويتريّث في أمرها. وأوّل النّاس في ذلك صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فكان كثير منهم لا يجيب عن مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه، وهم في هذا يقتدون بسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقد كان – بأبي أنت وأمّي يا رسول الله– يسأل أحيانًا فلا يجيب حتّى يسأل جبريل!! والأغرب من هذا ظهور شخصيّات ذات طابع فكري أو فلسفي بدأت تخوض في ما لا إلمام لها به، مثل ما أثير أخيرًا حول مسألة أسماء الله الحسنى وهي مسألة توقيفية، ولعل الانطلاق في فهم المسائل من النّاقص والبشري لفهم الكامل والمطلق والأزلي هو الذي دفع بهؤلاء القوم للخوض في ما لا يحسنونه.
كما انطلق البعض وفي أفكاره من رؤية ذاتية أو إقصائيّة دفعت بالأمور التي يعتبر الاختلاف حولها هو ممّا يمكن إدخاله في أبواب التيسير التي بنيت شريعة الإسلام عليها، دفعتها إلى الحَجْر والتضييق.
وبين يديّ ورقة هامّة للداعية السيّد عبدالله بن محمّد فدعق، والتي يرى فيها: (أنّ الأمر كلّما ضاق في مذهب معين، وجدنا له اتّساعًا في مذهب آخر، كما أنّ الإفتاء على مذهب واحد دون غيره يعتبر من الإقصاء الذي لا يليق بشريعة المولى سبحانه وتعالى ولا بشريعة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم)، وللشيخ يوسف القرضاوي رأي جدير بالتنبّه والاهتمام حيث قال، مع كثرة الجدل حول فتاواه الأخيرة: (ومهما يكن بيننا من نقاط خلاف، فعندنا أكثر منها نقاط التقاء واتفاق، ويمكننا، كما قال السيد رشيد رضا في قاعدته الذهبية، أن نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه).
وأختم هذه القضية برأي نفيس لفضيلة الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله– في شأن التيسير على النّاس، وأهمّية التّشاور حول قضايا الأمة: (وأمرت الشريعة بمشاورة أولي الرأي، بل جعلت الشريعة مكانة للشورى بين الصلاة والزكاة للاهتمام بها وعظم شأنها كما في قوله تعالى: والذين استجابوا لربّهم وأقاموا الصّلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون (الشورى:38).
 
طباعة
 القراءات :416  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 54 من 100
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.