صور مضيئة وسلوكيات رفيعة من حلقات العلم بالحرمين المكي والمدني .. |
كان أوّل عهد العبد الفقير إلى الله بحلقات العلم في المسجد النبوي الشريف في نهاية السبعينيات الهجرية، وكانت من أشهر الحلقات آنذاك حلقة الشيخ محمّد بن علي التركي، وكان ابن تركي – كما كان يحلو لأهل الجوار الطاهر نعته حبًّا وتقديرًا– قد ترسّخت منزلته، وتعمّقت محبّته في قلوب النّاس بما وهبه الله من العلم الشرعي، وكان إلى جانب تدريسه في المسجد الشريف يقوم بالعمل قاضيًا في المحكمة الشرعيّة؛ والتي كان يقوم بناؤها القديم في المنطقة الفاصلة بين حارة الساحة وزقاق الطوال. وكان يقضي كثيرًا من الخصومات بين النّاس عن طريق إصلاح ذات البين، وكان لباسه من (الشاش) الرقيق، وهي المادة التي كان يستخدمها الفقراء في حياكة ثيابهم، كما كان يسكن في منزل بالإيجار في زقاق الطوال، وليس ببعيد عن دار النابغة الصغرى، حيث مدفن عبدالله بن عبدالمطلب والد النبي صلّى الله عليه وسلّم، والذي قدم إلى المدينة في العصر الجاهلي من رحلته إلى الشام. |
وقد ذكر الإمام الصالحي في سيرته المعروفة (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير الأنام) ج1، 331 قصّة مرض عبدالله بالمدينة، وتخلّفه عند أخواله عُدي بني النجّار ووفاته في ديارهم، وكان رسول الله عليه صلاة الله وسلامه في المهد. |
في يوم جمعة كان الفتى يقطع الطريق من المسجد إلى ما كان يُعرف بـ(السنبلية) في حي باب المجيدي إلى حيث كان يعمل والده -رحمه الله-، ويسعى لكسب لقمة عيش حلال، رأى النّاس تتزاحم منهم المناكب للحاق بجنازة قد غطّيت برداء أبيض اللون، ورأى – رغم صغر سنه– كيف أن النّاس تخضَّلت لحاها ووجوهها النضرة بالدمع حزنًا على وفاة العالم الزاهد ابن تركي، وكان ذلك في عام 1381هـ. |
في عام 1388هـ قدمت إلى مكّة المكرمة معتمرًا.. رأيت حلقة علم يشدك مرأى صاحبها الوضيء، ولباسه الأبيض الذي يغطّي جسمًا نحيلاً، ولم تكن تلك الحلقة المزدحمة بالطلاب والمريدين إلا حلقة الشيخ المحدّث السيّد علوي بن عبّاس المالكي؛ والذي خلفه ابنه المحدّث والمجاهد في سبيل الله حقّ جهاده – كما وصفه بذلك فضيلة الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان–، لقد خلف السيّد المحدّث والورع محمّد بن علوي المالكي أباه في تدريس العلم الشرعي في المكان نفسه، وعندما قدمت إلى مكّة دارسًا في كليّة الشريعة عام 1392هـ كان الحرم يكتظّ بحلقات العلم في شتى فنون الشريعة الإسلاميّة، وكانت معظم المذاهب الإسلاميّة المعتمدة حاضرة في هذه الحلقات، فحلقات الشيخين حسن المشّاط ومحمّد نور سيف يتلقى النّاس فيها آراء مذهب إمام المدينة مالك بن أنس –رحمه الله-، وحلقة الشيخين عبدالله بن حميد وعبدالله بن دهيش متخصصة في فقه الإمام أحمد بن حنبل، وحلقات المشائخ عبدالله اللحجي وإسماعيل الزين ومحمّد عوض كانت تحتفي بفقه عالم قريش الإمام الشافعي – رحمه الله-، وكانت حلقات أخرى للمشائخ عبدالله خيّاط، وعبدالله الخليفي، ومحمّد مرداد، والذي كان عالمًا حنفيًّا كسلفه المرحوم الشيخ يحيى أمان، وحلقة للشيخ عبدالفتّاح راوة، وأخرى لأستاذ الأجيال في علوم اللغة عبدالله دردوم، وكان الشيخ السيّد محمّد أمين كتبي قد اعتزل التدريس واكتفى بحولياته المؤثرة في مدح المصطفى صلّى الله عليه وسلّم. وإذا كانت مكّة وحرمها الآمن قد فقدت في عام 1391هـ عالمين جليلين هما السيد حسن بن سعيد يماني، والد المفكّر المعروف معالي السيد أحمد زكي يماني، وكان السيّد حسن ومن قبله والده السيّد سعيد يماني من أصحاب الإفتاء أيضًا، وعمل نائبًا لرئيس هيئة التمييز الشّرعي مع قيامه بالتدريس في المسجد الحرام (انظر.. عبدالله بن عبدالرحمن المعلمي، أعلام المكّيين من القرن التاسع إلى القرن الرابع عشر الهجري، ج2، ص 19،10). |
أما العالم الآخر الذي فقدته مكّة في مطلع التسعينيات الهجرية فهو الفقيه المالكي والمدرس بمدارس الفلاح بمكة المكرمة الشيخ محمّد العربي التباني (1315 – 1390هـ) وكان الشيخ التباني قد درس عند قدومه إلى المدينة المنوّرة سنة 1332هـ على يد عدد من علمائها منهم محمّد بن خيرات الشنقيطي، والعلاّمة المعروف عبدالعزيز الوزير التونسي. (انظر: عاصم حمدان، حلقات العلم في الحرمين الشريفين ودورها في صياغة المعطيات الثقافية والفكرية) مجلة جامعة الملك عبدالعزيز – الآداب والعلوم الإنسانية، المجلد 12، 1422 – 1424هـ، ص 309 – 347. |
* صور مشرقة من تعامل العلماء مع بعضهم البعض:
|
كان فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز – رحمه الله- يضرب أمثلة رائعة في زهده وحسن تعامله مع الآخرين وتقديره لذوي الفضل فلقد كانت تقوم علاقة وثيقة بينه وبين الأستاذ والمربي والداعية الفاضل محمّد حميدة، تلميذ محدِّث الحرمين الإمام المالكي المعروف الشيخ عمر بن حمدان المحرسي (1291– 1368هـ)، وكذلك مع الحافظ لكتاب الله وأحد وجهاء المدينة في عصره الشيخ جعفر بن إبراهيم فقيه وسواهم. وقدم إلى مكة معتمرًا بعد وفاة المفكّر أحمد جمال، وزار أبناءه وأثنى على جهاد والدهم وفضله وعلمه. |
وكان فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح –رحمه الله- يسعى بين الحين والآخر على مرأى من النّاس لحلقة الشيخ المعمر، والذي اشتهر في العالمين العربي والإسلامي بمعرفته الواسعة بعلوم القرآن وقراءاته الشيخ حسن الشاعر –رحمه الله-، وكان يثق كثيرًا في علم الشيخ عطية سالم آخر فقهاء المالكية بمدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وقد سألته مرة عن قضيّة تتصل بكتابة المصحف الشريف؛ فطلب منّي تواضعًا منه أن أذهب إلى الشيخ عطية، وذهبت للشيخ عطية في مقر عمله بالمحكمة الشرعيّة، وكانت هذه الحادثة سببًا في قيام علاقة وثيقة بين كاتب هذه السطور وبين الشيخ عطية، وكان الشيخ ابن صالح ورفاق له من أمثال المشائخ: محمّد المختار الشنقيطي، وعمر جاد فلاته، ومحمّد الثاني، وعبدالله بن عثمان الصالح وسواهم، يحبّون أهل الجوار ويرفقون بهم أخذًا بقول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم (لو سلك النّاس واديًا وسلكت الأنصار شعبًا لسلكت شعب الأنصار، أنتم الشعار والنّاس دثار ولولا الهجرة لكنت من الأنصار، اللّهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار). |
وليس هناك من حرج في أن أروي قصة سمعتها من أستاذنا فضيلة الدكتور عبدالوهاب أبوسليمان – عضو هيئة كبار العلماء– وينقلها عن أحد طلاب العلم المعروفين والموثوق بهم في الحرم المكي المعروف بلقب "الخراشي" وهو أن أحد علماء الحرم المكي الشريف مرّ بالقرب من مجلس الشيخ ابن حميد في الحرم، وكان يوجد طالب من طلاب العلم والذي أخذه صلف وزهو في نفسه فتلفّظ بعبارات لا تليق بمكانة ذلك العالم، فيقول الدكتور أبوسليمان نقلاً عن الأستاذ الخراشي بأن الشيخ ابن حميد نهر ذلك الشخص وطلب منه مغادرة مجلسه، وهذا يدلّ على سعة أفق الشيخ ابن حميد وتقديره لعلماء الأمّة، حتى وإن اختلف معهم معرفيًّا أو فقهيًّا، وكثير ممّا يروى عن الشيخ ابن حميد في هذا الباب. ولقد ورث منه ابنه فضيلة الدكتور صالح بن حميد كثيرًا من تلك الصفات والسمات التي يحتاج بعض طلاب العلم للاستفادة منهما فيمسكون ألسنتهم عن القدح في العلماء وفي عموم أهل القبلة، وينزّهون أنفسهم عن الخوض في ما يجرّ على الأمّة كثيرًا من الفرقة والتشتّت والبغضاء. |
ولقد حدّثني فضيلة الشيخ محمّد بن سبيل، إمام وخطيب الحرم المكي الشريف، بأن الشيخ حسن الشاعر قدم إلى مكة في أواخر الثمانينيات الهجرية معتمرًا وكان برفقته معالي الشيخ صالح قزاز –رحمه الله-، وبعد أن أدى الشيخ الشاعر –رحمه الله- صلاة المغرب أو العشاء، اقترب من الشيخ ابن سبيل والذي أمَّ النّاس في الحرم في تلك الصّلاة الجهريّة وأثنى على قراءته قائلاً: لقد أجدت. وعلّق الشيخ القزاز قائلاً: هذه شهادة لك يا شيخ محمّد. وكان الشيخ ابن سبيل يروي تلك القصّة وملامح البشر والسرور تكسو وجهه، فلقد كان الشيخ الشاعر مرجعًا في علوم القراءات، وكانت جموع من النّاس تقصد حلقته في مسجد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم للتزوّد من علمه في كتاب الله المجيد. |
إن حلقات العلم في الحرمين الشريفين جديرة بأكثر ما يمكن أن يدخل في إطلالة عابرة كهذه.. وإن الحديث عن العلماء العاملين باعث على العظة والتذكّر، ثمّ إنّه باب يستفيد منه النّاس في جوانب شتّى من أهمّها الاقتداء بتلك السمات التي كانت تطبع حياة أولئك النّفر من حبّ ودعة وسعة أفق وتسامح وحسن ظن بالآخرين، حتى وإن اختلفنا معهم، وأنّ تعظيم وتقدير الرّموز العلميّة يفترض أن يكون أمرًا شائعًا بين النّاس ومتبادلاً في نفس الوقت، كما أنّ العكس قد يؤدّي إلى الجناية على وحدة الأمّة وتماسكها فتتفرق بها السبل، ولا يمكن أن يسبقنا الغرب في مجال التقنية والعلوم الحديثة ثمّ نراه يجتمع أيضًا بكلّ طوائفه حول قياداته الدينية، وخصوصًا في أوقات الأزمات؛ ولقد ظهر ذلك جليًا عند وفاة البابا جون بول الثاني، وإنّ في تاريخنا الإسلامي من حسن التعامل بين العلماء وطلاب العلم الشيء الكثير، فما أجدرنا بالعودة إليه والاستفادة منه، والابتعاد عن التعصّب والفئويّة والانحياز لرأي واحد وتهميش كلّ ما سواه. |
|