أرنولد توبيني ومقاربة نقدية لاطروحاته الفكرية إزاء الحضارة الإسلامية بعد نصف قرن من الزمن.. |
شغلت مراكز البحوث ووسائل الإعلام العربية بالحديث عن مساوئ شرب الكحول، وهو لم يصل في الماضي إلى الحد الذي وصل إليه أخيراً. فلقد تحدثت صحيفة الديلي تلغراف البريطانية عن شخص بدأ عادة تناول الخمر، وهو في سن مبكرة -من العقد الثاني من عمره- وتوفي وهو في التاسعة والثلاثين، بعد أن نحل جسمه، وأصفر لونه، وقد التقطت له صورة قبل وفاته توضح عدم قدرته على فتح عينيه، وتحدثت والدة الضحية عن هذه العادة السيئة لوسائل الإعلام قائلة: (كلما رأيت صغار السن، ومن الأطفال خصوصًا، وهم يحملون زجاجات (البيرا) انكمش خوفًا وقلقًا، متذكرة ابني (ديفيد) الذي تعود شرب الخمر صغيرًا، ورحل وهو لم يصل بعد إلى منتصف العمر). |
كانت تقارير مراكز البحوث المتخصصة في بريطانيا تتحدث عن الميزانية الضخمة التي تعتمدها الحكومة، وتنفق للتقليل من خطورة النتائج المترتبة على السلوكيات السيئة لمدمني شرب الخمور، فلقد بلغ ما يصرف على مراقبة حوادث السير الناتجة عن تناول الكحول حوالي تسعة ملايين جنيه إسترليني، أما من يتعرضون للحوادث أثناء سيرهم وهم مخمورون؛ فهم يكلفون الحكومة مبلغًا قدره ثمانية ملايين جنيه إسترليني. [انظر صحيفة الديلي تلغراف The Daily Telegraph عدد الاثنين 27 أغسطس 2007م صفحة 12]. |
كما ذكرت دراسة أخرى أنه كلما حاولت مراكز الإصلاح لاعتماد خطة للتقليل من شرب صغار السن للخمور، فإن أمد بقائها لا يكون طويلاً، حيث يعودون للعادة نفسها، وهذا ناتج عن نمطية التفكير السائدة في المجتمعات الغربية التي ترى في شرب الدخان ضررًا بالغًا، بينما لا تنسحب هذه الرؤية على عادة شرب الخمر، في الوقت الذي كثيرًا ما تشير وسائل الإعلام إلى سلوكيات بعض الشخصيات العامة التي دأبت على هذه العادة السيئة، فلقد اضطر مثلاً وزير الخارجية في حكومة هارولد ويلسون العمالية (1964- 1970م) جورج براون George Brown إلى الاستقالة من منصبه في عام 1967م، لتعرضه لحادث سير ثبت أن سببه -بناء على تقرير صحي- هو ارتفاع نسبة الكحول في عينة الدم التي حللها الأطباء بعد خضوع براون للعلاج، وعندما أشار ويلسون آنذاك إلى أنه اختار وزير خارجية آخر بسبب هذه العادة السيئة، خرجت بعض الصحف بعناوين مثيرة تؤكد أن (ويلسون) لا يقل عن نائبه في الحزب ووزير خارجيته (براون) من حيث استمراء هذه العادة السيئة، وتعرض رئيس حزب الأحرار الديمقراطيين (تشارلز كينيدي) في انتخابات 2005م لموقف محرج، عندما تلعثم في الإجابة عن سؤال أمام كاميرات التلفزيون، ولما انتهت الانتخابات، وعلى رغم ارتفاع عدد نواب الحزب وممثليه مقارنة بالانتخابات السابقة، فلقد ضغطت الصفوة في الحزب على (كينيدي) للاستقالة من زعامة الحزب، وذلك لأن تلعثمه أو تلكؤه في الإجابة عن أسئلة الصحافيين يعود لمبالغته في شرب الكحول. |
لقد تنبه المفكر الغربي أرنولد توبيني Arnold Toynbee قبل ما يقرب من ستين عامًا في محاضرة له بعنوان: (الإسلام والغرب والمستقبل) إلى مظاهر الخطر في الحضارة الغربية المعاصرة، وركز على عاملين أساسيين من هذه العوامل التي غفل عنها المنظرون لهذه الحضارة العالمية، وهو يشير نصًا إلى أن هناك مصدرين ظاهرين من مصادر الخطر؛ الأول نفسي، والثاني مادي في العلاقات العامة بين البروليتاريا العالمية، وبين الفئة الحاكمة في مجتمعنا الغربي، ومصدر هذين الخطرين هما: التمييز العنصري، والخمر. |
ولقد دعا توبيني إلى الاستفادة من معطيات الإسلام السلوكية والأخلاقية في مكافحة شرور الحضارة المعاصرة، يقول توبيني في هذا الصدد: (وفي مجال الصراع ضد هذين الشرين نجد للفكر الإسلامي دورًا يؤديه، ويبرهن فيه، إذا سمح له بتأدية هذا الدور، عن قيم اجتماعية وأخلاقية سامية، فعدم وجود التمييز العنصري بين المسلمين هو أحد أبرز الإنجازات الأخلاقية للإسلام، والعالم المعاصر في وضعه الراهن بحاجة ماسة لنشر هذه الفضيلة الإسلامية). [انظر: "الإسلام والغرب والمستقبل"، أرنولد توبيني.. تعريب الدكتور نبيل صبحي، دار العربية للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1389هـ/ 1969م، ص 62]. |
ويرى توبيني في موضوعية وحيادية تامة أن قوى التسامح العنصري ذات أهمية ضخمة للإنسانية، وهي الآن على ما يظهر تخوض معركة خاسرة على الصعيد الفكري، إلا أنها قد تتمكن من الغلبة إذا ما ساندها ونزل إلى جانبها في المعركة رصيد من النفوذ القوي المناضل الذي لم يزل حتى الآن احتياطيًا، ويعتقد توبيني أن هذا الرصيد القوي هو روح الإسلام، والتي ستكون التعزيز المناسب الذي سيقرر مصير هذه المعركة للتسامح والسلام. |
ويؤكد هذا المفكر الغربي أن الحضارة الغربية أوجدت ملاءمة اقتصادية وسياسية في المناطق الاستوائية التي بلغتها المفاهيم الحضارية العربية آنذاك أي قبل أكثر من نصف قرن من الزمن ولكنها، أي الحضارة الغربية، على حد تعبير (توبيني) قد أحدثت في الوقت نفسه فراغًا اجتماعيًا وروحيًا. |
ويدعو (توبيني) في وضوح إلى ضرورة الاستفادة من القوة الروحية الكامنة في الإسلام في معالجة المشاكل الموجودة في المناطق التي تفتقر إلى المعطيات الدينية والحضارية والفكرية، مدللاً مثلاً بأن (منطقتين من المناطق الاستوائية: أفريقيا وإندونيسيا كان الإسلام هو القوة الروحية التي استغلت الفرصة المواتية التي هيأتها لها على الصعيد الروحي الحضارة الغربية المادية التي سبقته، وإذا نجح الوطنيون -أبناء تلك المناطق- باستعادة وضعهم الروحي، فإنهم يستطيعون بواسطته أن يستعيدوا (أنفسهم)، فقد يثبت التاريخ أن روح الإسلام هي التي ملأت فراغهم العقدي بقيم جديدة. [المصدر السابق، ص 67]. |
ويؤكد توبيني أن القوة الروحية الكامنة في تعاليم الإسلام قادرة على تحرير النفوس من العادات والشرور السيئة، ومن بينها عادة شرب الخمر، حيث يقول نصًا: (ومن المنتظر أن تظهر روح الإسلام فيهم بعدة أوجه عملية، وقد تكون إحدى هذه الأوجه تحررهم من شرب الخمر عن طريق القناعة الدينية وبذلك تكون قد استطاعت روح الإسلام ما لم تستطع القوانين الخارجية من إنجازه). [انظر: الإسلام والغرب، ص 67]. |
بل إن توبيني ذهب إلى مدى أبعد في التنبؤ منذ نصف قرن من الزمن بأن دور الإسلام سوف يكون فعالاً في مواجهة قصور الحضارة الغربية، وعدم قدرتها على بث الطمأنينة والسكينة في نفوس أفراد المجتمعات التي اتخذوها سبيلاً ومنهجًا في حياتهم، يقول (توبيني) موضحًا هذا البعد الحضاري الهام والمترتب على انتشار قيمه الروحية الرفيعة: (أما في المستقبل البعيد فيمكن التكهن باحتمال قيام الإسلام بالإسهام في أوجه جديدة للدين، وهذه الاحتمالات المتعددة تتوقف على الوجهة السعيدة التي سيتمخض عنها وضع الإنسانية الحاضر). |
لقد كان توبيني بعيد النظر والقدرة على استشراف المستقبل فيما سوف يترتب على الوجهة المادية التي انطلقت إزاءها الحضارة الغربية المعاصرة، وأن هذه الحضارة سوف تعود يومًا لاستكشاف الأبعاد الروحية القوية الكامنة في الدين الإسلامي، وقدرته على معالجة أوجه القصور أو الانحطاط في السلوكيات الناتجة عن التطبيق المادي والمتعسف لمفردات الحضارة الغربية، وإذا كان الغرب في هذه الحقبة هو أحوج ما يكون لإصلاح ما اعوج من الفطرة السوية للإنسان، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل أتباع الدين الإسلامي على قدر من الحصافة والحكمة والتعقل في نشر قيم الإسلام الرفيعة من وسطية واعتدال وتسامح بعيدًا عن مفاهيم الغلظة والجفوة، وضيق الأفق التي طبعت سلوكيات فئة توهمت أن الإصلاح لا يكون إلا بسفك الدماء، وتهميش الآخر حتى لو كان من ذوي القربى، والقضاء على كل الجماليات التي طبعت على الاستمتاع بها الفطرة السوية للإنسان، والتركيز على المظهر الخارجي للفرد دون إيلاء النفس الإنسانية ما تفتقر إليه من تهذيب وصفاء، وما يفترض أن يتوطن فيها من حبّ ودعة ورقّة، ولهذا فإن الكشف عن الجوهر النقي والسامي لتعاليم هذا الدين الحنيف يتطلب نفوسًا على قدر كبير من الشفافية الروحية حتى نستطيع أن نساهم في البناء الأخلاقي لهذا الكون، ولنا في سلوكيات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصحابته رضوان الله عليهم المثال والقدوة الصحيحين، فلقد فتحوا العقول والقلوب بالكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، وكانوا الأكثر بعدًا عن الفظاظة والغلظة المنفرين، وصدق القائل في محكم كتابه:فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظًا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين (آل عمران 159). |
|