شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
من تاريخ الأدب العربي في الغرب: وليد عرفات وديفيد وينزر
كبت القطار من مدينة إدنبرة في الشمال الأسكلتندي إلى مدينة لندن، كان ذلك عام 1980م، وقبل فترة حلول القطارات السريعة، كانت العربات مزدحمة، ولقد أثارني منظر لن أنساه وهو فتيان وفتيات من ديار الغرب يُخرجون كتباً من محافظهم ويستغرقون في القراءة، وعلمت بعد أن قضيت مدة أطول في بريطانيا أن الناس هناك تقرأ كثيرًا وبنهم شديد، وإلا فكيف نفسّر أن صحفاً مثل التّايمز والديلي تلغراف توزع حوالي المليون نسخة يوميًّا؛ بل إن الناس يوم العطلة الرسمية (الأحد) يتسابقون إلى شراء صحيفتي الصّنداي تايمز والأُوبزيرفر، وهذه الأخيرة كانت أكثر شعبية عند ذوي العقول النّيرة، فهي قريبة في توجّهها من الصحيفة اليومية الغارديان.. كانت السماء تمطر بشدة والعواصف تهزّ من شدّتها أسقف المنازل، ولكنّ الحياة لا تتوقّف، والطلاب يتسابقون لدخول كلياتهم، ولنعترف بشيء من الموضوعية و الإنصاف أن تلك الشعوب التي سبقتنا في مضمار الحضارة قد أخذت نفسها بكثير من الجد والانضباط وتعويد النفس على تقلّبات الحياة كتعوّدهم على تقلّبات الجو ما بين ممطر وعاصف إلى مشمس وهادئ .
من لندن قطعت تذكرة إلى مدينة لانكسترLancaster ، وكان الظلام قد بدأ يلقي بعتمته على كل الأشياء، في القطار لمحت شابًّا قدرت أنه من أبناء وطني، وبعد أن استقريت في لانكستر عرفت أنه الزميل الدكتور رشاد حسن مفتي وكان يدرس الجيولوجيا مع زملاء آخرين في مقدّمتهم الصديق الدكتور محمّد عمر نصيف، والذي كانت داره مفتوحة للقادمين من جميع البلاد العربية، ويجب من باب الاعتراف بالجميل أن أشيد بموقف معالي الدكتور عبدالله نصيف حيث آزرني كثيرًا عن طريق معرفتي بأخيه أبي جمانة (محمّد نصيف) وشجّعني على إكمال الدراسة في الجامعات الغربية، وكان معالي الدكتور غازي مدني آنذاك وكيلاً للجامعة.
قصدت أقرب فندق في مدينة لانكستر، وكانت التّدفئة فيه ضعيفة، وكنت في الحقيقة قلقًا من المقابلة التي سوف يجريها معي البروفيسور وليد عرفات حتى يتمّ قبولي في القسم، فلقد حدّثني بعضهم أنه شديد ومنضبط؛ وأنني سوف ألاقي شيئًا من العنت عند اختيار الموضوع، وبالتالي موافقته عليه، وعندما استيقظت في الصباح حملتني سيارة إلى خارج مدينة لانكستر فلقد كان بناء الجامعة يقوم في منطقة ريفية وهي من أجمل المناطق التي شهدتها، دلفت إلى القسم، وجدت سكرتيرة في منتصف العمر تقوم بأعباء قسم الدراسات العربية والإسلامية، وكانت لغتي الإنجليزية لم تستقم بعد، فأخبرتها بأني على موعد مع رئيس القسم وليد عرفات، لم يطل جلوسي خارج المكتب، تعوّدنا في بلادنا أن نقضي وقتًا طويلاً قبل أن يسمح لنا بمقابلة مسؤول صغير في أي إدارة أو منشأة، دخلت إلى مكتب المسؤول ووجدت رجلاً قصير القامة، نحيل الجسم، حاد النظرات، تنبؤك قسمات وجهه أنه من ديار العروبة، ووجدتني أمام الأسطورة عرفات، وكنت بعد خروجي في كل مرة من مكتب عرفات بعد استقراري في جامعته أن أشرب فنجانًا من القهوة مع شخصية أكثر انفتاحًا ورقّة ومودّة، شخصية غربية كندية؛ لكنه عاش في بلاد العروبة بين مصر ولبنان هو ديفيد وينز، الذي كان متعاطفًا مع القضية الفلسطينية، ولقد نبّهني أحدهم أنه قد وضع لوحة صغيرة على باب مكتبه في القسم مكتوبة بخط عربي جميل تقول (فلسطين عربية ومسلمة)، ولعل ممّا ساعده على البوح بمشاعره الصادقة إزاء قضايا الأمة العربية هو الانفتاح الذي ساد نهاية السبعينيات الميلادية وبداية الثمانينيات بصعود قوى ليبرالية أو يسارية معتدلة تدعو لإنصاف الشعب الفلسطيني.
وكان زعيم حزب الأحرار ديفيد ستيل David Steel وزعيم المعارضة العمالية مايكل فووت Michael Foot، من أوائل من نادى بإنشاء دولة فلسطينية على رغم أن الأخير كان ينتمي للمؤسسة الأكثر ولاء للحركة الصهيونية؛ ولكنه في المرحلة الأخيرة من حياته الفكرية والصحافية جسّد نظرة معتدلة تنسجم مع حقيقة حياته المتسمة بالبساطة والتقشف، وكان في الوقت نفسه أكثر أعضاء البرلمان البريطاني فصاحة وبيانًا، حتى إنه كان في خطبه ينتزع إعجاب المحافظين والعمال على حد سواء، وتمثّل مقالته "بطلي المصري" My Egyptian Hero ، إنصافه لمصر وزعيمها في الخمسينيات الميلادية مقابل تذمّره الواضح في المقالة من غطرسة وكبرياء أنتوني إيدن Anthony Eden . [انظر المقالة في كتاب فووت الموسوم Essays, Old and New: The Uncollected 322 - 320 ـ p . p ـ 2003 -1953].
 
ديفيد ونيز David Wains والذي كان على مدى ثلاثين عامًا أستاذًا للدراسات الدينية والتاريخية في جامعة لانسكتر ترك إنتاجًا جديرًا بالقراءة لدى المتبعين للدراسات الاستشراقية، ومن هذه الكتب دراسته الموضوعية عن القضية الفلسطينية الموسومة : A Sentence of Exile, The Palastine ـ Israel Conflict ،1977-1897. ودراسة أخرى قيّمة تتبّع فيها تطور الفكر الإسلامي منذ العصر الإسلامي الأول حتى ظهور الحركات والتيارات الإسلامية المعاصرة، وتحمل هذه الدراسة مسمى Islam Introduction to . ويتذكر زميلي الدكتور جميل مغربي اهتمام وينز بالحياة الاجتماعية في العصر العباسي؛ حتى إنه حقّق مخطوطًا عن أنواع الأطعمة المنتشرة آنذاك في المجتمع العربي، وكان يحاول أن يطبّق عمليًّا ما وجده في ثنايا المخطوطة فصنع لنا أطباقًا شهيّة كان بعضها موجود في مدن الحجاز إلى عهد قريب مثل حلوى "الحيسة" المصنوعة من الدقيق والتمر والسمن البلدي.
كانت العلاقة بين عرفات ووينز في أحسن أحوالها عند التحاقي بقسم الدراسات العربية والإسلامية في الجامعة؛ ولكن إنجاز القسم الحقيقي كان في اندفاع طلاب المرحلة الجامعية للدراسة في القسم، لكن الجامعة اتخذت موقفًا سلبيًّا من القسم عندما بدأ الطلاب يتأثرون بما يقرؤونه بصورة موضوعية ووسطية ومتسامحة عن الإسلام حتى إن رئيسة الجمعية اليهودية في الجامعة أعلنت إسلامها بعد أن كانت، موضع إزعاج في القسم لانتماءاتها العرقية والأيديولوجية السابقة كما ذكر الدكتور عرفات نفسه. كان عرفات يجيد الإنجليزية إجادة متمكنة، فبعد تخرجه من الكلية العربية بالقدس عام1941م، هاجر عرفات مع بعض أفراد أسرته إلى بريطانيا، وكان شاهدًا على الهولوكست الفلسطيني على أيدي اليهود في فلسطين، وهناك درس الأدب الإنجليزي ثم العربي في جامعة لندن، وكان يجيد اللغة اللاتينية القديمة، وفي إحدى رسائله الممتعة زوّدني بترجمة عربية جميلة ومتقنة لقصيدة غزلية للشاعر الرومانيCatullus ، والذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد، ويقارن عرفات بين هذا الشعر الغزلي الحسي وشعر عمر بن أبي ربيعة، وتقول أبيات هذه المقطوعة التي تنتمي لفترة موغلة في الزمن:
فلنعش للحبِّ يا ليلى على مرِّ الأهلّه
إنّ تقريع شيوخ الحيّ لا يبلغ نِكْله
تطلعُ الشّمس وتَمْضي رحلةً مِن بعدِ رِحْلَه
ولنا نحن حياةٌ طُولها أقصرُ وَهْلَه
ثمّ نَمْضي في سباتٍ طولُهُ أطولُ رِحْلَه
فتعاليني قبِّليني مئةً بل ألفَ قُبله
ثمّ هاتي مئة أُخرى وألفاً ثمّ مِثْله
فإذا شَفَتِ الآلافُ من لثمكِ غِلّه
فاخلطي الأعدادَحتى تظهرَ الآلافُ قِلّه
حذرًا أن يعرفَ الواشِي فنستهدفَ عَذْله
وتعالي نبتدئ حالاًبألفٍ مستقلّه
 
ويشير أستاذنا عرفات -رحمه اللـه-في هامش الرسالة أن ليلى في الأصل الروماني هي Lesria ، وهو غزل حسي يوجد في آداب جميع الأمم وإن كان هذا الضرب من الشعر لا يستهونيي لإيغاله في الحسيّة؛ مفضلاً عليه الشعر العذري والعفيف الذي أسّس بناءه الشعراء العرب، وتأثر شعراء التروبادور بمعانيه السامية؛ وخاصة بشعر عباس بن الأحنف العفيف.
 
طباعة
 القراءات :370  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 100
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة الدكتورة عزيزة بنت عبد العزيز المانع

الأكاديمية والكاتبة والصحافية والأديبة المعروفة.