النزعة المحافظة والجسارة اللغوية عند الشاعر الإنجليزي ت.س إليوت وأثرها على التلقي عند العرب |
كان تأثير الأدب الغربي على الأدب العربي الحديث قضية هامة تصدّى لها عدد من النقاد والدارسين، وخصوصًا عند من اشتغلوا بترجمة عدد من النصوص الغربية، وبخاصة (إليوت)، وما تركته من آثار على الاتجاهات الحديثة في الأدب العربي المعاصر، ففي مرحلة متقدّمة نجد الأديب والناقد المعروف د . لويس عوض يشيد وينتقد في الوقت نفسه الشاعر الإنجليزي ت. س. إليوت T. S. Eliot، حيث يقول معبّرًا عن رؤيته: "مهما يكن من شيء فإن إليوت يمثّل اتجاهًا عظيم الشأن في القرن العشرين، وأصدق وصف له ولأمثاله من أدباء الكارثة، قول الشاعر العظيم "سبندر" فيهم إنهم عوامل هدم المجتمع الراهن، وإليوت بينهم سيد الهادمين، فهو روح قديم هائم عبر القرون، وهو عبقري ولد بعد جيله بأجيال". ويشير "عوض" كذلك إلى تأثير إليوت على عمود الشعر الإنجليزي حيث يقول: "وعمود الشعر الإنجليزي خاصية ظلت ثابتة فيه حتى ظهور إليوت، وتلك الخاصية هي استيحاء الميثولوجيا اليونانية والرومانية، وتأثر خطى القدماء في فنون الإنشاد، أما إليوت فهو مؤسس هذه المدرسة الجديدة التي تكثر من الاستعانة بالتراث الديني، وأثر دانتي فيه صريح لا يقبل الجدل، بل إنه لا سبيل إلى فهم إليوت إلا بدراسة ملحمة دانتي المشهورة "الكوميديا الإلهية"، كذلك يستخدم إليوت ما تعلّمه عند السير جيمس فريزر صاحب "الغصن الذهبي" من ميثولوجيا مقارنة بمهارة فائقة". [انظر: د. لويس عوض، الأدب الإنجليزي الحديث، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987، م ص- 291 304]. |
وفي خاتمة كتابه هذا يترجم عوض من الإنجليزية إلى العربية عددًا من نصوص إليوت، مثل أغنية "العاشق": ج، الفريد بروفروك Prufrock، وقصيدة إليوت الذائعة الصيت الأرض الخراب The Waste Land و"الرجال الجوف"، و"أربعاء الرماد" Ash Wednesday، إلا إنه مع مطلع الثمانينيات الميلادية قدم الدكتور عبدالواحد لؤلؤة ترجمة وافية ومتقنة مضمونًا وشكلاً لقصيدة الأرض اليباب، وقد أشار لؤلؤة في مقدمته بموضوعية عن القصيدة والشاعر قائلاً: "وقد تعرّض الشاعر وقصيدته إلى صنوف شتّى من النقد خلال ستين سنة مضت، رأيت أن ألخّص أهم ما جاء فيها قدم، للقارئ العربي صورة عمّا يمكن أن يتعرّض له شاعر وشعره في بلاد الغرب تاركًا للقارئ أن يكوّن رأيه الخاص" . |
كما يشير لؤلؤة في إيجاز إلى موقف التلقّي في الأدب العربي الحديث من القصيدة فيقول: "تشكّل القصيدة في نظري، إلى جانب آراء الشاعر في النقد، وثيقة مهمّة من وثائق موقف الأديب من التراث، وقد كان مثّل هذا الموقف ممّا شغل الأدباء في بلادنا زمنًا، وليس المهم أن يتّفق القارئ مع الشاعر في موقفه من مسائل شتّى، أو لا يتّفق، وليس المهم أن يحبّ هذا الشعر أو لا يحبّه، بل المهمّ أن يكون الرأي في هذا وذاك قائمًا على فهم صحيح هو الضمانة الوحيدة نحو التقويم الموضوعي.." [د . عبدالواحد لؤلؤة ت . س . إليوت، الأرض اليباب، الشاعر والقصيدة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 1400هـ- 1980م] . |
كما تعرّض الناقد الدكتور مصطفى بدوي للخلفية الروحية التي انطلق منها إليوت في قصيدته "أربعاء الرماد"، فهو يذكر أن القصيدة تتكوّن في الحقيقة من ست قصائد نشرت أولاً منفصلة، وعلى فترات متباعدة، ولكنها تجمعها فكرة واحدة، أو على الأصح تجربة روحية واحدة، إذ تدور جميعًا حول إحساس الشاعر بضرورة زهده في الحياة، والاستسلام لمشيئة الرب، والتخلّص من أدران الجسد والوجود المادي، وهي في جوهرها قصائد دينية وإن كانت لا تعتمد على تعاليم معيّنة لفئة أو شيعة بالذات، ولخلوّها من المذهبية فهي ذات قيمة إنسانية عامة.. [انظر د . مصطفى بدوي، دراسات الشعر والمسرح ، ط 2، 1979 /م ، ص 96- 97]. |
كان تلقّي إليوت عند أنصار الواقعية الاشتراكية في الأدب العربي الحديث سلبيًّا، ولهذا شنّ لويس عوض هجومًا عنيفًا عليه لارتباطه ـ أي إليوت ـ بالدين، وأثر ذلك في شعره يقول لويس عوض في امتعاض واضح عن هذا التوجه الديني عند إليوت: "فهو -أي إليوت- ينظر إلى الكنيسة نظر الماركسي إلى الدولة الشيوعية، أي يعدّها غاية الحضارة ودعامتها الأولى، وهو يخلط بين قيم الدين وقيم الدنيا، حتى ليقحم بالكنيسة في أخص شؤون الحياة الشخصية .." [انظر : الأدب الإنجليزي الحديث، ص 209]. |
ونرى من العبارة الأولى في نقد لويس عوض لإليوت أنه -أي عوض- يستحضر في ذهنه المنهج الماركسي والدولة الشيوعية، حيث لا يخفي إعجابه لهما، ولهذا يمكن القول إن كثيرًا ممن أعجبوا بالفن الشعري عند إليوت، أسقطوا شيئًا من ذهنياتهم المولعة آنذاك بالماركسية والواقعية والاشتراكية على إليوت في إطار تقييمهم له، وذلك خطأ كبير لأن إليوت ابن بيئته، فالأدب الإنجليزي في عمومه أدب محافظ، والتجارب الدينية -بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها- تشكّل رافدًا مهمًّا لدى عدد من المبدعين الغربيين على اختلاف توجّهاتهم الفنية. |
ويعتبر التراث الإنجليزي كما يرى الدكتور عبدالواحد لؤلؤة، ومعه الباحث رولاند بوش Roland Bush دعامة من دعامات شاعرية ت . س . إليوت، فالشعر الإنجليزي في القرن السابع عشر الماوراء طبيعي وبخاصة شعر (جون دن) إضافة إلى الشعر المسرحي وبخاصة شكسبير ومسرحيات معاصريه مثل توماس كد ومدلتون، وويستر. [انظر: Roland Bush T. S Eliot, : A Study In Character And Style, Oxford |
1985,University. Press]. إلا أن بعض مريدي لويس عوض مثل صلاح عبدالصبور قد كانوا أكثر تفهّمًا لتراث إليوت، وحاولوا أن يفصلوا بين أفكاره المحافظة المرفوضة لديهم، ولغته التي جذبتهم إليها بشدة، ويبدو ذلك في عبارات عبدالصبور المعبّرة عن هذا التوجّه أصدق تعبير ، حيث يقول: "حين توقّفت عند الشاعر ت .س . إليوت مطلع الشباب تستوقفني أفكاره أول الأمر، بقدر ما استوقفتني جسارته اللغوية، فلقد كنّا نحن ناشئة الشعر نحرص على أن تكون لغتنا منتقاة منضّدة، تخلو من أي كلمة فيها شبهة العامية أو الاستعمال الدارج". ثم يوضح أثر لغة إليوت البسيطة على شعراء جيله قائلاً: "وكنّا نُشيد به أولاً لهذه الجسارة اللغوية حتى أدركنا بعد قليل أن الشعر لا قاموس له، وأن الشعر الحديث في العالم كله قد تجاوز منطقة القاموس الشعري منذ أمد ليس ببعيد، وقد تأثّرت بهذه السمة الجديدة في عهد باكر، وأعلنت عن تأثري في قصائدي الأولى، فتبدّت في قصائدي "شنق زهران" حين حاولت أن أرسم صورة صادقة لهذه الشخصية الريفية في ملبسها وطابعها الإنساني.." |
ويسترسل عبدالصبور في تأثره بالأسلوب الشعري لدى إليوت؛ فيذكر أنه في قصائد أخرى قد تحرّر من اللغة الشعرية التقليدية إلى لغة أكثر ملاءمة للمشهد، ومنها "الحزن"، كما يعترف عبدالصبور بأن استخدامه للأسطورة في قصيدته "الملك عجيب بن الخصيب" ما هو إلا أثر من آثار الأسطورة عند إليوت.." [انظر : صلاح عبدالصبور، حياتي الشعر، دار اقرأ 1401هـ -1981م ص127]. |
ولم يكن عبدالصبور الوحيد الذي تأثّر في أسلوبه الشعري بإليوت فهناك كما يرى د . نذير العظمة عدد كبير من جيل شعراء الشباب الذين (انكبّوا على قراءة شعر إليوت "الأرض الخراب" بخاصة، والقصائد التي تلتها، والتي طوّرت موضوعها لا باعتبارها تعبيرًا عن انحطاط روح الغرب فقط، بل باعتبارها مشعلاً يستنهض أرواحهم.." [انظر د . نذير العظمة، مدخل إلى الشعر العربي الحديث، النادي الأدبي الثقافي جدة ط1 1408هـ-1988م، ص 243- 244]. |
|