الحوار القديم -المتجدد- هل يلتقي العلم والأدب تحت مظلّة واحدة؟! |
ناقش الباحث الإنجليزي Robert Whelan في مقال علمي نشره في العدد الأسبوعي من صحيفة الويكلي تلغراف (The weekly Telegraph) المخصّص لمناقشة العديد من القضايا الفكريّة والثّقافيّة والأدبيّة، والذي نشر بتاريخ 14 مايو و20 مايو 2009م، ناقش هذا الباحث قضيّة بالغة الأهمية وهي العلاقة بين العلم والأدب، مرتكزًا على محاضرة ألقاها الروائي المشهور (P. C. Snow) من منصّة مجلس الشيوخ بجامعة كمبريدج البريطانية وذلك في 7 مايو 1959م، أي قبل حوالي نصف قرن من الزمن، وكان عنوان المحاضرة هو: (الثقافتان والثورة العلمية) وقد حذّر (إسنو) Snow في تلك المحاضرة من أنّ العلم والأدب سوف يفترقان، وأن الفجوة سوف تضحى عميقة بين العلماء والأدباء، ضاربًا مثلاً بالعلماء الذين سوف يبذلون جهدًا عظيمًا في قراءة رواية للكاتب تشارلز ديكنز (1812 / 1870م)، وفي المقابل سوف يواجه المختصّون في العلوم الإنسانيّة صعوبة أكبر في الإحاطة بشيء عن القانــون الثّاني للعلــوم الحراريّة، أو ما يعرف في مصطلحه الإنجليزي بـ (Thermo Dynamics) (الديناميكا الحرارية)، وقارن (Snow) وفي صورة غير متكافئة بين جيل الشباب المتعلّم من البريطانيين ونظرائهم في أمريكا وروسيا من ناحية عدد صغار السنّ الذين يواصلون تعليمهم إلى السن المحدد بـ 18 عامًا، موضحًا أنّ نظام التّعليم البريطاني يجبر الطلاب في سنّ مبكرة على التخصّص، وأنّه يدفعهم بأسلوب فيه شيء من التعسّف إلى مجالات الثّقافة التقليديّة والمهنيّة بدلاً من المجالات المتّصلة بالعلوم والتّقنية، مقارنًا في هــذا السّيــاق بلدًا مثل بريطانيا مع (فينيسيا) (البندقية) (Venice)، وذلك من حيث سمات التدهور العلمي، ولكنّه يستدرك بأنّ (الفينيسيين)- نسبة إلى مدينة البندقية الإيطالية -كانوا محظوظين بحيث أصبحوا أغنياء بالصدفة كما حدث بالنّسبة لنا، وكأنّ المحاضر يرمز هنا إلى الحقبة الاستعماريّة للمملكة المتّحدة البريطانيّة؛ حيث أضحى الشّعب الإنجليزي ثريًّا على حساب الشّعوب المستعمرة، وتنبّهوا كما تنبّهنا -يعني البريطانيين- بأنّ مجريات التّاريخ الحديث تعمل في كافّة أشكالها بصورة تصادميّة معهم، وأنّ فئات منهم - أي الفينيسيين- عملوا بمقدار ما تهيّئه الظّروف لهم على الاستمرارية في الحياة وذلك من خلال العمل خارج الدائرة الصّغيرة وهي المنزل، وأنّهم من خلال هذه الدائرة وجدوا النّموذج أو الشكل الملائم لأحوالهم، كما وجدنا نحن -أي البريطانيين- الشكل المناسب أو الملائمة لنا، ولكنّهم للأسف -أي الفينيسيين- لم يستطيعوا كسر ذلك الحاجز لعدم توفر الإرادة الصلبة لمثل هذه الخطوة الجريئة. |
يضيف الباحث Whelan، بأنّ ما ذكره (إسنو) (Snow) شكّل موضوعًا هامًا في الدّوائر العلميّة، ولم يكن لأحد عندئذٍ أن يتصوّر الأبعاد التي سوف ينتهي إليها هذا الحوار من خلال المقالات والمناظرات التي سوف تأخذ في انتشارها بُعدًا عالميًّا، ويستشهد الكاتب بتوجه الناقد الأدبي "لفيز" F. R. Leavis، وفي عام 1962م إزاء الموضوع الذي أثاره "إسنو" (Snow) في عام 1959م، حيث اختار أن ينتقد النّبرة الواثقة جدًّا التي بدت واضحة في محاضرة "إسنو" Snow، وأنه أخفق -أي إسنو- في تقديم فروق موضوعيّة بين الثقافتين العلمية والأدبية، مذكّرًا أن "إسنو" تدرّب كعالم قبل أن يصبح كاتبًا، وأن رواياته من النّاحية الفنيّة يمكن تقييمها بأنّها متوسّطة، وكأنّ "ليفيز" يشير إلى استمرارية العلاقة بين الثقافتين العلميّة والأدبيّة، وأنّ الثّقافة العلميّة كان لها دور في إبراز موهبة الرّوائي "إسنو". ولقد أعيدت طباعة محاضرة "ليفيز" في مجلة (The spectator) (الإسبكتاتر) وهي مجلة تعنى غالبًا بالفكر المحافظ وما يتصل به، وذلك في عدد 9 مارس 1962م، وظهرت بعد ذلك في صورة كتاب عن دار النشر المعروفة باسم (Chatto and windus). |
حاول الناشران لمحاضرة "ليفيز"، والتي تعتبر هامشًا على متن محاضرة "إسنو" أن يتجنبا أيّ اعتراض من قبل "إسنو" صاحب الأفكار الرئيسيّة التي دارت حولها انتقادات "ليفيز"، ولهذه الغاية السامية التي تحفظ حقوق المؤلّفين الأساسيين، وهي سمة بارزة في الثّقافة الغربية، قاما بالاتصال بالروائي "إسنو" وسألاه إذا ما توجد لديه الرّغبة في إضافة جديد إلى أفكاره الرئيسيّة التي طرحها في محاضرته التي ألقاها في نفس الجامعة كمبريدج 1959م، فردّ "إسنو" على النّاشرين بأنّه مهما كان حجم الألم الذي يحسّه إزاء الانتقادات اللاذعة التي وجهها لأفكاره "ليفيز"، إلا أنّ ملاحظات الأخير سوف تجعل الحوار قائمًا حول هذه القضيّة الجديرة بتعدّد الرّؤى والأفكار. |
يشير كاتب المقال الباحث Whelan بأنّ الفصل بين الثقافتين العلميّة والأدبيّة يعود تحديدًا إلى القرن التّاسع عشر الميلادي، وأن مصطلح Scientist -أي العَالِم- قد تبلور وظهر عام 1833م، ولكن استخدامه وجد عند محاضر جامعي آخر وهو "ماثيو أرنولد" Matthew Arnold، عندما ناقش العلاقة بين الأدب والعلم في محاضرة له سنة 1882م ـ أي بعد نصف قرن من تشكيل مصطلح Science، وأنّ العلاقة بين الثّقافة التقليديّة والثّقافة العلميّة، ظلّت مستمرة حتّى في الحقبة التي شهدت الثّورة العلميّة والتّقنية الحديثة. |
ولعل آرنولد استجاب بشكل مطلق وغير مقيّد أكثر من ليفيز في دفاعه عن أفكار "دارون"، التي لا يزال الجدل محتدمًا حول تطابقها مع الواقع الحقيقي للبشريّة حتّى الوقت الحالي. لقد أبدى "آرنولد" في أفكاره المطروحة آنذاك رؤية جديرة بالملاحظة؛ وهي أنّ العلوم التقليديّة مستمرة في أداء دورها في المجتمع الغربي كاستمراريّة العلوم التطبيقيّة الحديثة، ويستشهد كاتب هذه المقالة الهامة أي Whelan، برأي أحد الفائزين بجائزة نوبل في العلوم في الستينيات الميلاديّة وهو سير أندرو هوكسلي Sir Andrew Huxly، والذي اعترف بأنّه عندما غيّر تخصّصه من الأدب الكلاسيكي إلى تخصّص علمي حديث وهو الفيزياء؛ بأنّ ناظر مدرسة ويستمنستر Westminster School، اتّهمه بأنّه بهذه الخطوة سوف يفقد مزية هامة وهي الاستمتاع بروائع الأدب الكلاسيكي. |
يذكر كاتب المقالة بأنّ "إسنو" أثار نقطة هامة في محاضرته التي ذكرنا أنّه ألقاها على الطلاب في جامعة عريقة هي كمبريدج سنة 1959م، وهو عملية إعادة التفكير في مفهوم التّعليم، أي بعد حوالي نصف قرن من الزمن، وهذه المحاولة تمت أخيرًا في سبتمبر 2006م، وذلك كمحصلة للتدهور الخطير في عملية التعليم فقليل هم الطلاب الذين يأخذون مادة العلوم Science في المستوى الأول والذي يعتبر تأسيسًا لثقافة الطّالب المبتدئ، وأنّ معظم المعلّمين في المدارس لم يتهيأوا لهذه العمليّة التعليميّة الهامة؛ فهم لا يحملون شهادات ذات صلة وثيقة بالعلوم، ونتج عن هذا الوضع السّلبي بأنّ الأقسام والكلّيات العلميّة تقع تحت التّهديد بالإقفال، كما أنّه أضحى من المتعذّر على أصحاب المصانع بأن يجدوا علماء متمكنين في تخصّصاتهم والمرتبطة باستمرارية هذه المصانع في المجتمع الغربي. |
كما يستشهد كاتب المقالة أيضًا بمدرس الفيزياء ديفيد بيركس David Perks، والذي انتقد في شهادة قدّمها لأحد مراكز العلوم الوضع المأساوي الذي انتهت إليه مقاربة المواد العلميّة بصورة مستقلة؛ حيث أضحت تعامل كفرع من علوم الإعلام أكثر من كونها مصدرًا للمعرفة، وكانت فرضية "بيركس" تقوم على أنّ الطلاب ينفرون من العلوم لعدم توفّر الرغبة، وأنّهم أضحوا يفضّلون المستويات السّهلة، وأنّ المدارس لا تشجّعهم على تطوير مقدراتهم العلميّة، وأنّه تمّ استبدال التدريب في المعامل لاستخلاص نتائج علميّة مفيدة تساهم في دفع مجالات التقنية الحديثة إلى مستويات أفضل، تمّ استبدالها بمجالات أخرى بعيدة عن مجال العلوم. |
لقد كان بيركس Perks، مصيبًا في الكثير مما قاله؛ حيث أكّد أنّ الطلاب ينفرون الآن من المجالات العلميّة، وذلك لانعدام الرغبة لديهم إزاءها، وأنّهم يفضّلون دراستها في المستوى الدراسي المعروف بـ(A- Level)، وأنّهم يهبطون من مجال العلوم الحديثة إلى دوائر أخرى أكثر عموميّة والتي تحتفظ في مستوياتها التعليميّة بما يمكن وصفه بدوائر العلم المنفصلة عن بعضها البعض، وقد أطلق بيركس مصطلحًا مجازيًّا على هذا الضّرب من التفريق بين المستويات السّهلة وهو التفرقة العنصريّة أو التمييز التعليمي، وأنّ استخدام بيركس لمصطلح Apartheid الذي وضع أصلاً للتعبير عن سياسة التمييز العنصري المرفوضة في ميثاق حقوق الإنسان في كلّ الثقافات يدلّ هذا الاستخدام هنا على استشراف بيركس للنتائج المدمرة والمترتّبة على هذا الانحياز لصالح الأدبي ضدّ العلمي. |
تعود جذور المناظرة بين العلم والأدب إلى قرون موغلة في القدم؛ ولكنّها تجدّدت في العصر الحديث، حيث لم تعد القضيّة تُختصر فيما إذا كان الطلاب يتطلّعون لترجمة كتاب الشاعر اليوناني "هوراس" Horace، أو حلّ معادلات في علم الجبر، والظّاهر أنّ القضيّة أكبر من ذلك بكثير. |
ويطرح كاتب هذه المقالة هذا السؤال: "هل هناك فائدة من طرح هذا الموضوع القديم والجديد في آن"، ويجيب Whelan بـ"نعم" هناك فائدة، فلقد أثارت مناظرة "إسنو-ليفيز" القضية أكثر تعقيدًا حول طبيعة التعليم وما نتوقع أن تنجزه العملية التعليمية، ويرى محرّر المقالة أنّ كُلاً من الكاتبين- أي إسنو- وليفيز، كان محقًّا فيما ذهب إليه، فالأوّل اعتقد أنّ الفهم العلمي يمكن أن يكون ذا سمة تجمع بين الرقّة والحيويّة بالنّسبة للثّقافة، والآخر كان محقًّا في لفت الانتباه لضرورة الحاجة للعلوم لتعمل بشكل فعّال ومؤثّر، وأن يتمّ ذلك في نطاق الإطار العام للقيم الأخلاقيّة والتي يوفّرها التعليم. |
ويتابع Whelan قائلاً: بأنّه يوجد في قلب التعليم الحرّ فكرة تقول بأنّ لدى الإنسان القدرة على التحرّك والانتقال من الهمجيّة إلى المدنية باستخدام القدرات العقليّة والأخلاقيّة، وهي الفكرة القادرة وحدها على أن توحّد بين دائرتي العلم والأدب في بوتقة واحدة وبالتالي يمكن أيضًا للعلماء والأدباء أن يجتمعوا تحت مظلّة واحدة، وهو هدف سامٍ وعظيم تتطلّع إليه جميع الأمم ومختلف الثقافات. |
|