شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الرواية السعودية الحديثة معالجة للواقع أم استشراف للمستقبل؟
لقد اعتاد الناس أن يودعوا عامهم المنصرم بضروب شتّى من الاحتفال والذكرى، ولا يعنيني أن يودع الغربيون شهورهم وسنواتهم بضروب من اللهو والعبث، ولكن المقابل هناك رؤية جدية مضادة للرؤية السابقة وهي استشراف المستقبل من خلال آراء المتخصصين في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والأدب. وهذا الاستشراف هو الذي حفظ لحضارة الغرب استمراريتها وتجددها.
وعلى الرغم من التشاؤم الذي يحيط بالفرد العربي، وهو تشاؤم أملته سياقات حضارية مر بها العالم العربي منذ تحرره من السيطرة العثمانية، ووقوعه في ما هو أشد وأنكى، ونعني به التسلّط الغربي الذي لا يرى عالمنا سوى مصدرٍ للثروة، ودنيا جذابة تستمد جذورها من الصور التي رسَّختها قصص ألف ليلة وليلة في المخيلة الغربية، على الرغم من ذلك الإحباط الذي نرى انعكاساته في ما يكتبه العربي شعرًا ونثرًا ، قصيدةً وقصةً وروايةً، إلاَّ أننا على المستوى المحلي بدأنا ندرك قيمة "الوسطية" التي ساهمت في رقي المجتمع العربي والإسلامي في عصوره الذهبية، متذكرين موقف إمام المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي رفض أن يُكفِّر الخارجين عليه، ونعَتَهم بأنهم "إخوة لنا بغوا علينا"، وسائلاً المولى لهم بالهداية والرجوع إلى جادة الحق والصواب، وإذا كنا نشاهد ونسمع اليوم ما يلوكه بعض أتباع المذاهب في حق أئمة عاشوا في خير القرون، فإن أئمة هذه المذاهب التي عرف البعض نصوصًا ظاهرة منها ، يحملون من التقدير والإجلال لبعضهم البعض ما يصلح أن يكون قدوة ومثالاً لنفر من الأجيال الحاضرة سلوكياتها وأقوالها وممارساتها لشؤون دنياها وآخرتها.
مع حلول الإنسان المثقف معالي السيد إياد مدني في موقع الإشراف والرعاية للشأنين الثقافي والإعلامي، بدأنا نلحظ حراكًا ثقافيًّا وفكريًّا أملته ظروف المرحلة الراهنة التي نمر بها حضاريًّا واجتماعيًّا وفكريًّا، وكانت بداية هذا الحراك الإيجابي ما شهدته الأندية الأدبية في بلادنا من تغيير، ولقد مسَّ هذا التغيير ما عانت منه بعض هذه المؤسسات من أحادية ظن أصحابها أنهم وحدهم القادرون على تغيير المشهد الثقافي والفكري بأساليب السطوة وفرض الرأي الواحد. ولم تكن هذه الأحادية وقفًا على الذين يصطفّون على يمين المشهد وحده؛ بل حتى الذين كانوا يقفون على يساره، فإنهم لم يكونوا أقل حدّة وانكفاءً على ما يعتقدونه أو يميلون إليه من رؤى وأفكار غابت عن بيئتها الأصلية، وتوهمنا أنها القادرة وحدها على اجتثاثنا من تخلّفنا الفكري والأدبي.
لقد ضخّت المؤسسة الثقافية الرسمية بلادنا دماءً جديدة تمثّل تعددية الأفكار والرؤى والمنازع. وإن كانت هذه التعددية غابت عن بعض المهرجانات والأيام الثقافية السعودية، والتي عُقدت في بعض العواصم العربية، وهو ما يطرح أسئلة حول بعض صور هذه الازدواجية والتي يفترض التخلص منها حتى لا نعود للمربع الأوّل الذي انطلقنا منه داخليًّا، والذي هو الآخر قوبل بردة فعل قوية وقاسية من التيارات التي ترى أنَّ رؤيتها للكون والحياة هي الرؤية الصحيحة، وما سواها حائد عن الطريق، ومجانب لطريق النجاة، وهو أسلوب تتبناه من أدبيات التيارات الأخرى التي قدَّمت صورة مشوّهة عن تاريخنا الحضاري والفكري الذي يؤمن بالآخر، ويفسح له مكانًا وزمانًا.
وإذا كانت فترة الثمانينيات الميلادية شهدت توجّهات إبداعية ونقدية في مضمار فن الشعر وخصوصًا لجهة إعادة قراءة منجزنا الشعري، وخصوصًا عند روّاد القصيدة الكلاسيكية الحيَّة من أمثال حمزة شحاتة، ومحمّد حسن عواد، والذين هيّأوا بإبداعاتهم الشعرية كما هو الحال عند "شحاتة"، وبرؤاهم النقدية الواعية التي خير من يمثّلها العوّاد في خواطره المصرحة، هيَّأوا المشهد الشعري أمام الأجيال التالية على اختلاف منازلها.. من أمثال: محمّد العامر الرميح، ومحمّد العلي، وسعد الحميدين، وعبدالمحسن حلّيت، ومحمّد الثبيتي، وأحمد البهكلي، وعبدالرحمن العشماوي، وعبدالله الصيخان، وحسين العُروي، وأحمد البوق، وفاروق بنجر، وخديجة العُمري، ومسفر الغامدي، وخديجة الصبان، وفوزية أبوخالد، وإنصاف بخاري، وسارة أبوحيمد، وغيداء المنفي، وسواهم، فإننا نجد بداية الحقبة الميلادية الجديدة، وتحديداً منذ عام 2000م شهدت هذه الحقبة والتي تلت حرب الخليج الثانية، وما تركته من تغيّرات على بنية مجتمع الخليج العربي وخصوصًا لجهة رؤيته للآخر إيجابًا أو سلبًا ، شهدت إبداعًا رِوائيًّا كان الأكثر فيه إنتاجًا الأستاذ "عبده خال" والذي رسّخ وجوده في عالم الرواية السعودية الجديدة من خلال أعمال مثل: "الموت يمر من هنا"، و"الأيام لا تخبّي أحدًا"، وأخيرًا "فسوق" وإن كانت روايته "الأيام"، تنطلق من البيئة الشعبية ـ حارة الهنداوية ـ كما انطلقت من قبل أعمال مبدعين ومؤسسين من أمثال: عبدالعزيز الرّبيع في "ذكريات طفل وديع"، وحمزة بوقري في "سقيفة الصفا"، وعلي حسون في "الطيبون والقاع". كما جسّد العمل الروائي المتكامل لعبدالله التّعزي "الحفائر تتنفس" البيئة المكية بموروثها الحضاري والشعبي العريقين. فالحفائر هي امتداد من أسفل مكة للهجلة والشبيكة وجبل عمر، ومن الأعلى للطندباوي وجرول، مع أنه من خلال مشاهد الرواية نتنقّل في أحياء مكة، حتى نصل إلى "الشّعْب" وهو المكان الذي امتزجت فيه ثقافات شتّى، وانصهرت في بوتقة واحدة، وترسَّخت من قبول هذه البيئات بحكم موروثها الحضاري للآخر وانصهاره مكوناتها ذات البُعد الإنساني الضارب في أعماق التاريخ، وليس أدلّ على ذلك من ذلك الانصهار، ما حاول الروائي التّعزي من خلاله التطواف بنا في وديان مكة وجبالها ليحط رحاله في الحفائر التي تستطيع "الطّونبرة" أن تكشف لنا عن السر الذي كنّا نحس بأنفاس البطل المتلاحقة ليكشفه أو يكتشفه، وكأننا في مشاهد شبيهة لتلك.. يمثّلها أو يجسّدها فيلم "الجذور"، وكذلك البحث عن "السر" المفقود في شخصية "عمر المسك" هو ما تقوم عليه رواية المبدع محمود تراوري "ميمونة"، والتي تختلف عن سابقتها "الحفائر" بأن أحداثها تدور في البيئتين المدنيّة والمكيّة. ولعل هذا التطواف من أقاصي البلاد المسلمة إلى أرض المقدسات تجعل "ميمونة" مُعادلاً موضوعيًّا وفنيًا لما يمكن أن ندعوه بـ "موسم الهجرة إلى الحجاز"، وفي عفوية وانسيابية تدل على تمكّن الكاتب من أحداث ومشاهد روايته، نجد أولئك النازحين في هجرتهم بحثًا عن عالم الروح والقداسة يتماهون في المشهد الكلي للرواية، من أولئك الذين يجدون أنفسهم غرباء في بيئتهم الأصلية، وإذا كانت أحوشة المدينة وأزقّتها حاضرة في "ميمونة" التراوري، وكذلك "مكة " بدءًا من الوادي، وانتهاءً بأجياد، فإننا نجد "جدة " حاضرة طوق نجاة لبطل الرواية عندما تحيط به الهموم، وتحاصره القيود، وخصوصًا وهو يحاول تحطيم القيود والانطلاق في عالم حارة برّة. ومع أن الفصل الأخير من هذه الرواية، والذي حمل رمزًا شعبيًّا وهو "جوش" وهو ما خُتمت به بنية الرواية نصًّا، إلاَّ أنني أجد أن الرواية اكتملت من خلال الفصل الذي سبقه "وقت يضوِّعه المسك!"، إلاّ أنه يمكن القول إن كاتب "ميمونة" حاول أن يصرف ذهن القارئ من وضوح تسلل بعض فصولها إلى لغز يخفيه "الجَوْش"، حيث اعتادت أسطورة المزمار أن تخفي البطل الحقيقي في محافل يتحلّق حولها المفاليح، كما أسطورة "بازنقر وفقي زنبيل" حتى أضحى الناس يؤرّخون لأشيائهم بحادثة" بازنقر "فتى الشبيكة"، الذي تخلّص منه "الحلفاء"، بعد أن تنقّل بين الصفوف رافعًا صوته بـ "زومال جارح" رأى فيه الآخرون جرحًا لكرامتهم، ولا يمكن في هذا السياق أن نشيح بوجوهنا عن عمل روائي آخر حمل اسم "الآخرون" لمبدعة رمزت لاسمها بـ "صبا الحرر" وفضاؤه بيئة القطيف، ومع تجاوزنا للمشاهد التي تخدش حياء الكبار والصغار معًا؛ فإن الرواية يمتزج ما فيها من سياسي بما هو حضاري واجتماعي، طارحة موضوع اختلاف الجذور والهوايات، ووقوفه سدًّا أمام التقاء الناس كبشر خلقهم الله ليتعارفوا ويتآلفوا، ولا أعلم إذا ما كان الفصل الذي حمل رقم "24" من "الآخرون" أرادت منه الكاتبة أن تثبت سويَّتها وعودتها إلى الفطرة، أم هو مخرج مصطنع لرواية تصوّر المستور من العلاقات التي يفترض أن تكون نقيةً وبعيدةً عمّا يشوّه الفطرة البشرية السويّة، والتي رسمت لها الشرائع الدينية طريقًا صحيحًا، وحذّرتها من التنكب أو الحيْاد عنه.
ولا تبدو رواية "طنين" والتي تعرض التاريخ بأسلوب روائي رفيع بعيداً عن معالجة واقع اجتماعي محدد، حيث نجد أن الحقيقة دائمًا تنطق بها ألسنةُ الأمهات غير المحظيات، مع أن الإسلام جاء ليمحو الفوارق، ويئد العصبيات. وإنني أجد "طنين" رؤية استشرافية تنطلق من معالجة واقع تاريخي يمتد لحوالي قرنين من الزمن، وهذا ما حدا بالكاتب أن يصوغ حوادث روايته بأسلوب يمتزج فيه الواقعي بالمتخيَّل، ولا ننسى أن كثيرًا من الروايات العالمية كانت مُلْهمةً للبشرية في مستقبلها، وفاتحةً للدروب التي لا يغلقها شيء مثل التعصّب والانحيازية.
ويبدو أن رواية "جاهلية" لليلى الجهني تمتحُ من ذات المنبع الذي حاولت الرواية السعودية الحديثة مقاربته، وهو "الوضع الاجتماعي" وما تعكسه القيود الاجتماعية من آثار سلبية على العلاقات فيه.
ولعلّ الأقرب إليها في أحداثها رواية "ميمونة"، وإن كانت الروائية "الجهني" قد لامست في روايتها الأولى "الفردوس اليباب"، والتي تميّزت بصياغة أدبية رفيعة، لامست فيها ما يمكن أن يدخل أيضًا في باب ما تتركه القيود والأعراف الاجتماعية من تأثيرات على المرأة خصوصًا، ولعل اختيار الكاتبة لبيئة جدة كساحة يتحرك فيها شخوص روايتها الأولى، مع أن بيئتها الأصلية هي المدينة، بُعدًا أو باعثًا آخر لاختيار المدينة التي تحتضن ثقافات متنوعة جعلت منها مدينة متميّزة بين المدن الأخرى. فهي وإن يمنحها البحر صفاءه ورقّته وعمقه، فإنها تمنح الآخرين-إلى حدِّ السخاء- مكانةً وشهرةً لمن عرف سرَّ أبوابها وأسوارها.
من الملاحظ أن فن الرواية اختلط مع فن السيرة، وكان للدكتور الناقد منصور الحازمي رأي هام، وهو أن كثيرًا من الأعمال التي أخذت مسمّى رواية ما هي إلاّ إعادة صياغة لسِيَر كُتَّابها، وهذا ما وجدته في عمل الكاتب عبدالله ثابت "الإرهابي20 "، فهي سيرة ذاتية لكاتبها الذي وقع في شراك تيار متشدد، ومشكلة هذا التيار الأساسية ـ كما أشرنا في البداية ـ هي انحيازه للرؤية الأُحادية، ومحاولة فرضها بالقوة، وإزاحة ما سواها من الرؤى. ولكنني أهمس في أذن ثابت -الذي تعاطفت مع ماضيه وحاضره على حد سواء- بأن الكارثة الحقيقية التي تنتظر بعض من يقفون على أقصى درجات اليمين واليسار هو ابتعادهم عن الوسط، عندما يجدون أن تجاربهم الماضية كانت خطأً كبيرًا وفادحًا، وربما لأسباب ليس لهم يد في اقترافها، وحتى تتخلّص نفوسهم من تأنيب الضمير الذي قد يتسبب في شيء من الإحباط والانغلاق هو رجوعهم لصوت الفطرة في نفوسهم، فالإيمان هو رديف الفطرة وحاضنها وحارسها من الزلل.
ويبقى سؤال هام بعد الاستعراض السريع لهذه الأعمال التي جعلت فن الرواية يستحوذ على كثير من الأضواء، ويحظى بالالتفات والاهتمام.. هذا السؤال هو: أليس في مجتمعنا من مشاهد الخير والألفة والمحبة وصور مكارم الأخلاق ما يجعل مَن رُزقوا موهبة الإبداع في فنون القصة والروايةأن يلتفتوا إليها، ومقاربتها إبداعيًّا بنفس الوسائل والأدوات؟.
 
طباعة
 القراءات :358  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 106 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور سليمان بن عبد الرحمن الذييب

المتخصص في دراسة النقوش النبطية والآرامية، له 20 مؤلفاً في الآثار السعودية، 24 كتابا مترجماً، و7 مؤلفات بالانجليزية.