شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
صور من حلقات العلم والفكر في رحاب الحرمين الشريفين
تفتحت أعيننا على الحياة في طيبة الطيبة في حقبة ما بعد منتصف السبعينيات الهجرية (الخمسينيات الميلادية)، وكان الحرم النبوي الشريف يمثل آنذاك محور الحياة العلمية والفكرية وذلك من خلال حلقات العلم التي كانت تعقد في رحابه الطاهرة، ومن أبرز هذه الحلقات حلقة الشيخ محمّد المختار الجكني التي كانت تعقد خلال شهر رمضان المبارك في الحصوة الأمامية من المسجد، وكان الشيخ الجكني، الذي يعد مرجعًا هامًا في علوم الشريعة وتخرج على يده عددًا من رجالات العلم، كان يبتدئ درسه بتفسير آيات من القرآن الكريم مستخرجًا منها الأحكام الشرعية ويستخدم في أسلوبه المميز والشيق علوم اللغة والبلاغة والمنطق، وكان كثير الاستشهاد عند تعرضه لدلالات الألفاظ بالشعر الجاهلي، وكان العامة والخاصة يعجبون من تلك الذاكرة القوية التي يتمتع بها الشيخ أثناء تطوافه في حقول علمية عدة، ولم أستمع في حياتي لمن يفسر القرآن بتلك الصورة العلمية والشيقة إلا عن شخصيتين علميتين أحدهما من نحن بصدد الحديث عنه أي الشيخ الجكني والآخر فضيلة الشيخ محمّد متولي الشعراوي رحمهما الله، وترك الشيخ الجكني كتابه المعروف أضواء البيان وتفسير القرآن بالقرآن في مجلدات عدة وأكمله من بعده تلميذه الفقيه المالكي الشيخ عطية محمّد سالم الذي كان في العقود الماضية مرجعًا في فقه عالم المدينة مالك بن أنس، كما ازدهرت في مكة المكرمة مدرسة الفقه المالكي من خلال مدرسة الفلاح وسواها من مؤسسات التعليم في البلد الحرام، وكان من أبرز علماء هذه المدرسة أصحاب الفضيلة المشايخ: عمر بن حمدان المحرسي 1292-1368 هـ. [انظر سلسلة أسانيده في الحديث النبوي الشريف في كتاب "أبي القيص محمّد ياسين الفاداني المكي، الموسوم إتحاف الإخوان باختصار مطمح الوجدان في أسانيد الشيخ عمر حمدان، دار البصــائر، ط 1406 هـ / 1985م]، وكذلك أصحاب الفضيلة مشايخنا الشيخ محمّد العربي التباني، والسيد علوي بن عباس المالكي، والشيخ محمّد نور سيف بن هلال، رحمهم الله جميعًا رحمة الأبرار، وهناك أسرة علمية معروفة في مكة المكرمة بأسرة آل مفتي المالكي من أبرز شخصياته العلمية، الشيخ عابد المالكي 1275-1341هـ، والشيخ جمال المالكي 1285هـ/1349م، والشيخ محمّد علي بن حسين المالكي 1287/1368م. [انظر عن تراجم هذه الشخصيات العلمية "كتاب سير وتراجم بعض علمائنا في القرن الرابع عشر للهجرة، عمر عبدالجبار، مؤسسة مكة للطباعة والإعلام ، ط 2، 1385هـ].
ومن الحلقات التي كانت تجتذب الناس في مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حلقة الشيخ محمّد المختار الشنقيطي والد الشيخ محمّد محمّد المختار، عضو هيئـة كبار العلماء وحلقة الشيخ محمّد المختار الشنقيطي وأخيه الدكتور عبدالله المختار، وحلقة أخرى للشيخ محمّد الحافظ في شهر رمضان كما كان فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن باز يجلس بجوار خوخة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويجيب على أسئلة الناس، كما كانت حلقة معروفة لشيخ القرّاء حسن الشاعر الذي حفظ القرآن على يده كل من فضيلة عبدالعزيز بن صالح إمام وخطيب المسجد النبوي الشريف لأكثر من نصف قرن من الزمن والشيخ إبراهيم الأخضر وسواهم ، ومن الحلقات التي كان يرتادها عامة الناس وخاصتهم حلقة الشيخ عمر محمّد جاده فلاته، وقد جلس كما عرفت من أستاذنا محمّد حميدة، أمد الله في عمره، للدرس في سن مبكرة وهيأه لذلك الشيخ عبدالرحمن الأفريقي، وقد خلفه الشيخ " عمر" في الإشراف على مدرسة دار الحديث.
كنا الشباب آنذاك تجذبنا حلقة عمر لأنه كان بسيطًا في أسلوبه عند شرح الأحاديث النبوية وتبسيط الأحكام الفقهية ومقاصد الشرع الحنيف، كما كان تواضع الشيخ دافعًا لجذب الشباب إليه، وأتذكر أننا في عام 1390-1391 هـ نعقد حلقة في الحصوة الأمامية من المسجـد مرتين في الأسبوع ليلة الاثنين وليلة الجمعة، وأطلقنا عليها مسمى ندوة الأصدقاء، وكنا نحاول أن ندعو في كل جلسة واحدًا من رجال العلم ولقد لبى دعوتنا الشيخ عمر فلاته والشيخ محمّد حميدة، وكانت فرحتنا كبيرة بوجودهما بيننا، فقد تأثرت أجيالنا بهذه الحلقات المباركة والتي تختصر في صورها تاريخ الإسلام العلمي والفكري والحضاري.
كان الشيخ عمر فلاته، داخل الحرم وخارجه وفي دار الحديث وفي الجامعة الإسلامية عندما تولى أمانتها العامة، كانت أخلاقه وتواضعه موضع إعجاب الناس وحبهم له وتعلقهم بشيخهم وقد أخبرني العديد من الإخوة الأفارقة المجاورين من المدينة، أنه أي شيخ عمر وبرفقته أستاذنا محمّد الثاني، يحرصان على زيارة إخوتهم عندما يسمعون بخبر مرض أحدهم أو نزول مكروه بهم، كما كان الشيخ عمر يحرص على الخروج وراء الجنائز والدعاء للميت، قد أخبرني الشيخ عمر نفسه أنه عندما توفي الشيخ محمّد النقاوي أتوا بجنازته بعد صلاة العشاء مباشرة فصلى عليه في الروضة المباركة، وصادف أن فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح إمام المسجد النبوي لم يخرج من الحرم، فسأل الشيخ عمر عن صاحب الجنازة فأخبره بأنه الشيخ النقاوي، فطلب منه أن يحضره للمحراب الأمامي وصلى عليه مرة أخرى، ويبرز هذا السلوك حب ذلك الجيل كالعلماء والدعاة البر والخير، وأنهم ليبتغون من وراء ذلك الثواب من الله عز وجل.
وقد أكرم الله بعض العلماء بالتدريس في الحرمين الشريفين ومنهم الشيخ عمر حمدان المحرسي، والشيخ محمّد نور سيف الذي جاور بالمدينة في عام 1391-1392هـ، وافتتح درسًا في علم الحديث النبوي بالقرب من خوخة سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه وقد قرأ عليه كاتب هذه السطور شيئًا من رياض الصالحين خلال شهر رمضان المبارك عام 1391 هـ، كما كان السيد علوي بن عباس المالكي المتوفي سنة 1391 هـ، يعقد درسًا عند قدومه إلى المدينة بمكتبة عارف حكمت وكانت تقوم في الجهة النبوية للمسجد النبوي الشريف بجوار دار أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أما شيخ العلماء في عصره الشيخ حسن المشاط فكان يعقد بعض دروسه عند قدومه إلى المدينة زائرًا في مدرسة دار العلوم الشرعية بالمدينة، وهي أقدم المؤسسات التعليمية النظامية والتي مازالت مستمرة في دوره العلمي منذ عام 1340هـ بمبادرة من السيد أحمد الفيض أبادي ويمثل هذا الرجل مع الشيخ محمّد علي زينل الذي أسس مدارس الفلاح في مكة المكرمة سنة 1330هـ ثم مدرسة أخرى تحمل نفس الاسم في مدينة جدة هاتان الشخصيتان من الشخصيات العلمية العظيمة في تاريخ العلم بهذه البلاد الكريمة. [انظر: "مدرسة العلوم الشرعية بالمدينة المنورة، الموقع التاريخي الرائد" د.محمّد العيد الخطراوي ، ط 1411 هـ/1990م].
كما كان شيخنا فضيلة السيد محمّد أمين كتبي، أحد أبرز رموز العلم والفكر والأدب في بلادنا، كان إذا ما قدم إلى المدينة يجتمع مع علمائها وخصوصًا مع شيخ القراء بالمدينة حسن الشاعر، وقد أخبرني فضيلة الدكتور عبدالوهاب أبوسلمان، عضو هيئة كبار العلماء، أن شيخه وشيخنا حسن المشّاط طلب منه أن يقصد الشيخ إبراهيم الختني عند زيارته للمدينة المنورة، وكان من علماء المدرسة الحنفية بالمدينة ليأخذ منه الإجازة في علم الحديث النبوي الشريف كما أخبرني فضيلة السيد محمّد علوي المالكي أنه أخذ إجازات علمية من بعض علماء المدينة المنورة وفي مقدمتهم الشيخ عبدالقادر الشلبي والذي احتضنت داره عددًا من طلاب العلم الذين بدأت عليهم مخايل النجابة والتفوق مثل الأساتذة محمّد حسين زيدان، وأحمد عبيد المدني، وصلاح الدين عبدالجواد. كما أخبرني الشيخ المقرئ زيني بويان أنه كان عند قدومه إلى المدينة يقصد منزل الشيخ عبدالباقي الأنصاري من زقاق الطوال، وهو حي له مدخل من جهة شارع العينية ومدخل آخر من جهة حي الساحة، وفي مكة المكرمة كان بعض العلماء يعقدون دروسهم في دورهم مثل السيد عيدروس البار، ومن بعده ابنه السيد علي البار وفضل البار، وكذلك السيد حسن بن محمّد فدعق العلوي المكي، جد السيد عبدالله محمّد فدعق. وكان السيد حسن يحتفي بالناشئة ويدنيهم منه، وهذا حال معظم مشايخنا الذين كان لهم دور كبير في توجيه الأجيال لمنهج الوسطية والاعتدال والتسامح وهو المنهج الذي يفترض أن تتربى عليه الأجيال وأن مثل هذا النهج كفيل بإبعادهم عن الغلو والتطرف والتشدد وهي سمات تسببت في كثير من المآسي والشرور للمجتمعات الإسلامية والعربية في العقود الأخيرة والتي تولى تنشئة الأجيال فيها شخصيات هي أبعد ما تكون عن مقاصد شرعنا الحنيف والذي تمثل فيه أخلاق وسلوكيات وشمائل سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصورة المثلى والحية لديننا القائم على الرحمة للقريب والبعيد والتعامل مع الآخرين بالرفق والمحبة والحوار، وذلك مما تتطلع إليه الأمة كافة في حقبتها الآخرة.
 
طباعة
 القراءات :323  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 104 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج