نزار مدني.. عقلية دبلوماسي ووجدان أديب |
قراءة في كتاب دبلوماسي من طيبة |
|
لا أعرف متى بدأ اهتمامي بفن المذكّرات؛ أدبية كانت أم سياسية، وكان أول ما قرأت في هذا الفن "أيام طه حسين" التي أزعم أنها لم تتكرر بعد في أسلوبها السردي الرفيع، وعلى النطاق المحلي ما كتبه الأديب والشاعر الدكتور غازي القصيبي في ما أسماه “سيرتي الشعرية”، وقد دوّن عدد من الساسة الإنجليز محافظين وعمّال سير حياتهم من أمثال: ريتشارد كروسمان، باربرا كاسل، راب بتلر، جيمس كالاهان، هارولد ويلسون، توني بين، لورد كارنغتون، فرانسيز بيم، إدوارد هيث، نايجل لاسون، مارجريت تاتشر، وسير إليس دوقلاس هوم، وجون ميجور.. وهذا الأخير تسبّب نشره لمذكراته في أزمة عائلية حيث زعمت الوزيرة السابقة في حكومته وذات الجذور اليهودية Edwina Currle، أنها كانت على علاقة عاطفية معه وكانت متكتّمة على الأمر، وعندما أخرج مذكراته دون أن يشير إليها اعتبرته إهمالًا لها، فكانت تصريحاتها سببًا في تفكك روابطه العائلية. |
المذكرات التي كتبها الساسة الغربيون يختلط فيها الأدبي بالسياسي والاقتصادي بالفكري والاجتماعي، وهذا ما وجدته في سفر الأديب والدبلوماسي الدكتور نزار عبيد مدني والموسوم "دبلوماسي من طيبة.. محطات في رحلة العمر"، وهو العمل الثاني من الأعمال التي كتبها مسؤولون وهم لا يزالون في قمة عطائهم؛ فالأول كان للدكتور القصيبي "حياتي في الإدارة"، ومع أنني اكتشفت موهبة الدكتور نزار في الكتابة الأدبية منذ أن قام مشكورًا بكتابة مقدمات اثنين من مؤلفاتي وهما: "حارة المناخة" و"صفحات من تاريخ الإبداع الأدبي في المدينة المنورة" إلا أن كتابه والذي تعرض لموضوعاته المثيرة يدخل بجدارة في فن كتابة السيرة الذاتية، كشف بداية عن الجهد الذي بذله في إخراج هذا العمل وهو جهد بني على منهج علمي حيث نجد كل فصل من فصوله والتي دعاها محطات، يسلمك بسهولة ودون تصنّع للفصل الذي يليه، وفي مقدمة الكتاب يكشف الكاتب عن الجانب الذي ورثه عن أسرته وهو موهبة الإبداع الفكري والأدبي، حيث يشير إلى أن من دواعيه لتأليف هذا الكتاب هو “أن يكون الكتاب متنفّسًا للتعبير عن مواقفي الفكرية وآرائي ووجهات نظري تجاه بعض القضايا والأحداث والأمور التي اعترضتني من خلال سيرة حياتي سواء ما كان يتعلق منها بالجوانب الاجتماعية أو المشاهد الثقافية والفكرية أو الأحداث السياسية ولا أخال أحدًا يضنّ عليَّ أو يحرمني من هذه الرغبة وهذا التطلع، فهو -في يقيني- حقّ مشروع خاصة بعد السنين التي قضيتها في الخدمة العامة". |
تستغرق المحطة الأولى من الكتاب، والتي دعاها الكاتب بـ"المدينة المنورة.. الجذور 1360هـ / 1380هـ، أي حوالي عقدين كاملين من الزمن ما يقرب من أربعين صفحة، ويسكب عزيزنا "نزار" عواطفه في هذا الجزء أو المحطة فيقول في كثير من الحب الصادق: "خرجت إلى الحياة الدنيا في هذه المدينة الطاهرة، وفي بيت لا يفصله عن المسجد النبوي الشريف سوى أمتار معدودة حيث كانت تعانق عيناي صباح مساء مآذنه وقبته الخضراء الزاهية، وفي أجواء هذه المدينة ومرابعها ومراتعها أمضيت مرحلتي طفولتي ومراهقتي درجت خلالها على ثراها، وتنفّست عبق مسجدها وروضتها ومقامها، وتفيّأت ظلال نخيلها وسدرها وكرمها، وتنسمت عبير وردها وفلها وريحانها وفاغيتها، وتذوقت حلاوة رطبها وعنبها وتينها وسرت في أزقتها الضيقة ومناخاتها الفسيحة وساحاتها التي يطمئن إلى مرابعها حمام السلام، وتهبط بها قوافل الحجيج، وأصبح لا شوق يوازي اشتياقها الذي تنطوي عليه نفسي ويلوب في فكري وخلدي، ولا حب يعدل حبي لها الذي يخفق به قلبي قبل أن تتمتم به شفتاي".. |
وإذا كان أديبنا أدرك في مطلع العمر سويقة، والعينية، والساحة والمناخة وسوق الحبابة، والحماطة، وتعوّدت أذناه على سماع الأصوات الندية من الرئيسية وباب السلام والرحمانية، والشكيلية، والسليمانية وهي المنائر التي كانت تبلّغ نداء الحق لجميع أرجاء طيبة الطيبة فإن جيل الدكتور نزار ثم أجيالنا التي لحقت بعده هي الأجيال التي تعيش بلا ذاكرة، فلقد اقتضت سنن الحياة أو نواميسها أن تندثر تلك الأماكن الحميمة إلى الأبد، وأن يطوّح الدهر بـ(أم الشجرة) و(المصرع) و(الجزع) و(سوالة) و(المفتية) وغيرها من البساتين التي كانت تحيط بالمدينة من جميع جهاتها، وأن تختفي أصوات محمود نعمان، وعبدالملك نعمان، وحسين بخاري، وعبدالستار بخاري، وهاشم غباشي وأبو السعود ديولي، وأسعد نجدي؛ بل إن آذاننا حرمت من سماع صوت عبدالعزيز بخاري الذي أزعم أنني لم أسمع صوتًا شجيًا في حياتي بمثل شجنه قبل أن يرحل مؤذننا هذا إلى الآخرة مطمئنًا، ومن صوت أخيه (عصام) الذي يرقد على فراش المرض، ولعل الإخوة العاملين في رئاسة الحرمين الشريفين أن يبادروا ويكرموا أبناءً لهم وأحفادًا، يملكون كل مقوّمات أداء نداء الحقّ من جوار مثوى سيدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ومسجده الطاهر. |
في المحطة الثانية والتي أطلق عليها كاتبنا اسم (التحوّل) والممتدة بين عامي 1379هـ / 1384هـ، والتي تدور حول انتقاله إلى البلد العربي- مصر-، حيث يتحدث فيه عن انخراطه في التعليم الجامعي، ويجسّد بعبارته تلك النقلة الكبيرة في عواطفه وأحاسيسه والتي شعر بها عند ولوجه بوابة الجامعة والجلوس بين الطلاب والطالبات في مُدرّج المحاضرات يقول كاتبنا: "غمرني في البداية إحساس طاغ بالرجولة وبأني لم أعد ذلك التلميذ في المدرسة الناصرية في المدينة المنورة، الذي لم يكن عالمه الخاص يتجاوز المسافة من (سوق القماشة) إلى (باب المجيدي) ولا حتى ذلك الطالب الذي كان يظن أن مجرد انتقاله إلى مدرسة طيبة الثانوية سوف يمنحه الصك المنشود نحو الحرية والاستقلال، لقد شبّ الفتى عن الطوق وبات رجلاً بكل ما يحمله مفهوم الرجولة من مضامين باختصار.. لقد أصبح طالبًا جامعيًا". |
الذاكرة المتوثبة عند كاتبنا وانتقالها من حدث إلى آخر لا تزال تحتفظ بأسماء رفاق الدرب في كلية الحقوق بمصر من الإخوة السعوديين وهم: رضا لاري، وعبداللطيف ميمني، وحامد يحيى، وكذلك أسماء أساتذته الذين تلقّى على أيديهم علم السياسة والقانون من أمثال الدكاترة: عبدالمنعم البدراوي، والدكتور سعيد النجار، والدكتور رفعت المحجوب، والدكتور بطرس بطرس غالي، إضافة إلى أسماء بعض زملائه من البلاد العربية الأخرى مثل: عبدالمولى الزعبي من لبنان، ووليد المعلم، وزير خارجية سوريا حاليًا وغيرهم. |
المحطة الثالثة في حياة كاتبنا تمتد بين عامي 1385-1388هـ وأطلق عليها جدة (1)-التأسيس، ويذكر فيه تنبؤ والده الشاعر الكبير والمؤرخ السيد عبيد مدني بأن ابنه (نزار) سوف يكون سياسيَّ المستقبل، ويورد أبياتًا نظمها والده احتفاءً بجديته في الدرس والتحصيل، وقد عرف السيد عبيد (بمثنيّاته) والتي شكّلت جزءًا هامًا من ديوانه الذي لم يطبع إلا بعد وفاته سنة 1406هـ-1986م أي بعد عقد كامل من الزمن من تاريخ وفاته 1396هـ. وكتب مقدمته زميله في حلقات الدرس بالمسجد النبوي الشريف الأديب والمؤرخ عبدالقدوس الأنصاري -رحمهم الله جميعًا- وسرد الكاتب على نمط فريد من الصراحة كيفية خطبته لشريكة حياته.. يقول في هذا الشأن الهام والحساس في حياة كل إنسان وبعبارات أدبية بليغة وموحية ومؤثرة: "في تلك الليلة شاءت إرادة الله سبحانه وتعالى أن أجد نفسي مع ثلة من أهلها وقليل من أهلي فجأة أمامها وجهًا لوجه، وإن تمّ ذلك من خلف باب، وما إن التقت عينانا في نظرة عميقة حملت في طياتها من المعاني والمشاعر والرسائل ما حملت حتى ـ كُتب بعدها التاريخ-، في خلال تلك اللحظة الفريدة لم تنطق الشّفاه، ولكن العيون تكفّلت بالواجب، وأخذت على عاتقها مسؤولية الكلام".. |
ويذكر في هذا الفصل لقاءهُ أثناء عمله في أرشيف وزارة الخارجية بجدة بالشخصية المحبوبة على مستوى الوطن كافة وهو معالي السفير الشيخ محمد الشبيلي أبو سليمان، ويمكنني القول إنني سمعت شخصيًّا الكثير عن هذا الرجل وشمائله المحببة من صهره الوالد المرحوم الشيخ عبدالعزيز بن ناصر التركي. |
ويكتب في هذا الفصل عن هزيمة حزيران برؤية السياسي ولغة الأديب قائلاً: "جاءت نكسة يونيو حزيران ونتائجها الكارثية لتغتال أفراحنا وابتساماتنا ومكامن السعادة في حياتنا، ولتضع العرب جميعهم أمام هزيمة بحجم تغيير المفاهيم والجغرافيا، فالهزائم العسكرية تاريخيًّا لا بد من أن تخلف وراءها تغييرًا يعكس حجمها، وتغييرًا في السياسة في الحدود وفي المقاييس والمعايير".. |
وبتواضع يمكن لكاتب هذه السطور القول بأننا هُزمنا في عام 1397-1967م، حضاريًّا قبل أن نهزم عسكريًّا وسياسيًّا، وإذا كانت الأمم الأخرى بعد هزائمها استطاعت أن تنهض من كبوتها وتعثّرها وتخلّفها إلا أننا للأسف لم نَفِد من دروس الأمس في صنع الحاضر والمستقبل، ولعل فيما تبقّى من محطات الكتاب الأخرى وهي التأهيل والانطلاق والحصاد ما يمكن أن تساهم به هذه الشخصية الفذّة المتعلّقة بالواقع ورصد تحوّلاته المتعددة ومن خلال عطائها الذي يمتزج فيه السياسي بالفكري.. |
نعم.. أن تساهم من خلال عملها الرسمي في الدبلوماسية في إعطاء جرعة من الأمل للأجيال الصاعدة والتي يعتريها الكثير من الإحباط لدواعي عدة ومتداخلة وصعوبتها تأتي من فقدان قنوات التعبير الضرورية والملحّة عما تعانيه في دواخلها. |
|
|