شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
محمود درويش والطريق إلى فلسطين الذي تخيله في شعره طويلاً ..
 
كانت القضية الفلسطينية في بداية الثمانينيات الميلادية تشهد حصارًا شديدًا شبيهًا بذلك الحصار الذي ضربته إسرائيل على مدينة بيروت العربية على يد الإرهابي "شارون"، والذي ارتكب مجزرة من أبشع مجازر العصر "صبرا وشاتيلا"، ولكن المؤلم حقًا هو ذلك القتال الذي تفجر بين بعض الفصائل الفلسطينية، واستغلته القوى الصهيونية في بريطانيا، حيث كنا ندرس في جامعاتها آنذاك. وكنت أنصت لسجالات النواب في مجلس العموم، فإذا بواحد من أبرز أنصار إسرائيل وهو "إيان ميكاردو" يتساءل من الذي يمثل منظمة التحرير الآن أبوموسى أم ياسر عرفات؟، وكان يرمي من ذلك القول إلى إغلاق مكتب متواضع لرعاية المصالح الفلسطينية في لندن، ورفضت رئيسة الوزراء آنذاك في الفترة نفسها مقابلة عضوي منظمة التحرير محمّد ملحم وإلياس فريح، رغم وجود اتفاق مسبق بينها وبين البلد العربي الأردن، وكانت التهمة جاهزة هو ربط منظمة التحرير بتهمة الإرهاب متناسية أن بيغين وشامير مطلوبين للعدالة البريطانية لارتكابهما أعمالاً إرهابية ضد الإنجليز في فلسطين أثناء حقبة الانتداب البريطاني.
كنت أشعر بضيق شديد، وتوجهت إلى مكتبة الساقي في قلب العاصمة البريطانية، وكانت السيدة الراحلة مي غصوب تجلس خلف مكتبها، فإذا هي تدفع لي بديوان شعري جديد للشاعر محمود درويش يحمل اسم "حصار لمدائن البحر" وحملت الديوان معي مع مجموعة من الكتب الأخرى لمدينة مانشيستر، وبقي في الذاكرة من قصائد هذا الديوان قصيدة واحدة استشرف فيها درويش بحسه الوطني انتفاضة الحجارة، فالديوان مطبوع في عام 1984م مما يعني أن قصائده مكتوبة قبل وقت صدوره، وكانت الانتفاضة في نهاية الثمانينيات الميلادية، والنص الذي استشرف فيه درويش الأحداث تقول كلماته:
 
ليت الفتى حجر
يا ليتني حجر
أكلما شردت عيناي
شردني
هذا السحاب سحابا
كلما همست عصفورة أفقا
فتشت عن وثن؟
أكلما لمعت جيتارة
خضعت
روحي لمصرعها في رغوة السفن
أكلما ذبلت خبيزة
وبكى طير على فنن
أصابني مرض
أو صحت: يا وطني
أكلما نور اللوز اشتعلت به
وكلما احترقا
كنت الدخان ومنديلاً
تمزقني
ريح الشمال ويمحو وجهي المطر؟
ليت الفتى حجر
يا ليتني حجر
 
والقصيدة تحمل دلالات عدة منها شوق "درويش" وهو شوق كل فلسطيني لأرضه، فهو يعبر عن حالة من اليأس والإحباط من جراء العوائق التي تحول بينه وبين الوصول إلى الأرض التي ولد على ثراها، فلا السحاب بالعصافير التي تحلق فوقه أو قريبًا منه، ولا البحر بالسفن الذي يمخر عبابه بقادرين على أن يحققا ما ينشده الشاعر، ولكنه "يعوِّل على الحجر" في ظل عجز الفلسطيني عن حمل السلاح.. وهو الذي لا يجد قوت يومه الذي ينتزعه منه الإسرائيلي القادم من البلاد البعيدة والغريبة لا تربطه بتراب فلسطين وحقول زيتونها ولوزها أي صلة، إلا أن درويش الذي استشرف المستقبل، ووجد أن الخلاص في الحجر وهو كل ما أبقته الصهيونية الظالمة في الأرض بعد أن هدمت القرى واغتصبت الحقول والبيادر، وهجرت الفلسطينيين لمدن الصفيح بعيدًا عن أرض آبائهم وأجدادهم، درويش يتمنى أن يكون هو بنفسه حجرًا ليتحول إلى أداة لمقاومة المغتصب لأرضه والذي دفعه للنزوح والهجرة بعيدًا عنها.
لكن درويش في نص آخر يعبر عن الزمن الطويل قبل أن يبلغ أرض فلسطين على قدميه ويرشف قهوة أمه، يقول عن هذا الزمن الذي طال وتمدد، زمن الانتفاضة والتحرر والالتصاق بالأرض:
سأقطع هذا الطريق الطويل
وهذا الطريق الطويل إلى آخره
إلى آخر القلب أقطع هذا الطريق الطويل، الطويل، الطويل
فما عدت أخسر غير الغبار
وما ما مني وصف النخيل
تضيق بنا الأرض أو لا تضيق
سنقطع هذا الطريق الطويل
إلى آخر القوس،
فلتتوتر خطانا سهامًا،
أكنا هنا منذ وقت قليل
وعما قليل سنبلغ سهم البداية
دارت بنا الريح دارت
فماذا نقول
أقول سأقطع هذا الطريق الطويل
إلى آخري وإلى آخره
 
[أنظر عن هذا النص الشعري لمحمود درويش، كتاب الناقد محمّد بنيس، الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها، 3 الشعر المعاصر، ط3، 2001م، ص: 299].
ويبدو أن استشعار درويش الآخر كان في مكانه أيضًا فالطريق إلى بلوغ الوطن طويل جدًّا وكأنه يشبه ذلك الطول برحلة التيه عندما يقول في النص نفسه "فلتخرجوا من رحيل لكي تدخلوا في رحيل".
عندما كان الشاعر سميح القاسم يردد على مسمع درويش في حرقة وأسى وهو في كفنه مسجَّى، هذه العبارة "أتسمعني؟ طبعًا أنت تسمعني"، كنت أستحضر في نفسي رثاء أحمد قنديل لصديقه حمزة شحاتة مع الفارق في الرؤية والباعث الإبداعي وهو يخاطبه بعد وفاته قائلاً:
أخي يا رفيق الدرب والعمر والمنى
ودنيا فنون الشعر والفكر والحب
أتسمعني.. طبعًا فأنت بجانبي
حياة بها عشنا الحياة على الدرب
غريبين في الدنيا تباعد أهلها
تباعا ولما ينأ جنبك عن جنبي
على الرمل كم نُصغي لسقراط والألى
أقاموا صروح الفكر بالشرق بالغرب
على البحر كم نمشي مع الموت ساكنًا
وفي الصدر موج هادر النبض والوثب
نريد لأهلينا الحياة طليقة
فيسخر أهلونا ونأسف للجدب
 
طباعة
 القراءات :298  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 79 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ محمد عبد الرزاق القشعمي

الكاتب والمحقق والباحث والصحافي المعروف.