شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
البواعث الثقافية والإنسانية وراء مشروع عبدالمقصودخوجه الفكري والأدبي..
 
ذكر الأستاذ محمد حسين زيدان في مقابلة أجرتها معه مجلة "اقرأ" على عهد رئيس تحريرها الدكتور الأديب عبدالله منّاع، وذلك في منتصف التسعينيات الهجرية، في سياق حديث له عن الأدب السعودي بأنه (نشأ فينا رجال لم يصنعوا الأدب، ولكنهم شجعوه، فكانوا بذلك أكثر من صانعيه.. من هؤلاء محمد سرور الصبان"، وكان الزيدان -رحمه الله- صادقًا في مقولته ذات الجرس الرافعي-نسبة إلى أديب العربية مصطفى صادق الرافعي، فإذا ما نظرنا إلى الكتب الأدبية التي ظهرت بعد توحيد المملكة العربية السعودية على يد المغفور له الملك عبدالعزيز، كأدب الحجاز والمعرض وخواطر مصرحة، ووحي الصحراء، ومجموعة الأستاذ الراوية عبدالسلام الساسي بدءًا من الشعراء الثلاثة ونفثات من أقلام الشباب الحجازي، والأدب المقارن، وشعراء الحجاز في العصر الحديث، وانتهاء بالموسوعة الأدبية لأدباء المملكة العربية السعودية نجد أنه كان وراء خروج هذه الكتب الهامة، والتي تعد مراجع أولى في دراسة الأدب السعودي، هو دعم وتشجيع الأستاذ محمد سرور الصبان والذي كان هو -نفسه- يقول الشعر ويدني منه أهل العلم والأدب من أمثال: السيد علوي المالكي، وأحمد إبراهيم الغزاوي، وضياء الدين رجب، ومحمد المغيربي فتح، ومحمد حسين زيدان، والسيد علي حسين عامر، وإبراهيم فودة، وحمزة بصنوي وأمين عبدالله، والسيد المنتصر الكتاني وسواهم، وكان بستان أم الدرج في مكة المكرمة، والزاهدية في المدينة المنورة بمثابة منتديات لرجال الفكر والأدب من داخل البلاد وخارجها، ومآثر الشيخ الصبان كثيرة، ولم أجد رجلاً فذًا ظلم في تاريخنا الفكري والأدبي مثل الشيخ الصبان، ولم يدون معاصروه عنه شيئًا إلا ذلك الكتاب الذي صدر في بداية الثمانينيات الهجرية بعنوان: (رجل وعمل) للأستاذ عبدالله عريف، ويحمد لنادي جدة الأدبي في عهد رئيسه السابق الأستاذ عبدالفتاح أبومدين إقامته لندوة شارك فيها عدد من الشخصيات التي عاصرت الصبان أو تعاملت معه وفي مقدمتهم الأستاذ المرحوم حسين قاضي، وهو شاعر أورد الأستاذ الساسي شيئًا من شعره في شعراء الحجاز في العصر الحديث، وكذلك الأستاذ إبراهيم غلام، أحد رجالات المدينة المنورة، والذي عاصر كثيرًا من الأحداث الهامة في تاريخنا المحلي، ويعتبر مع الأستاذ الأديب محمد حميدة والأستاذ حسن الصيرفي من المرجعيات في تاريخنا الفكري والأدبي والذي لا يزال جزء كبير منه حبيس صدور الرجال الذين ينفرون من الشهرة وضجيج الصحافة وصخب الإعلام وإثاراته.
مع مطلع القرن الخامس عشر الهجري ظهرت انعطافات هامة في تاريخنا، فكان ظهور أول تيار فكري متشدد، وهو تيار سعى إلى الفتنة في أقدس البقاع إلى الله، وذلك لغياب الفقه والوعي والإدراك بمقاصد الشرع الحنيف، مذكرًا بالتيار الذي برز في أول عهد توحيد المملكة والذي حرم تقنيات العصر والتي تعد نتاج حضارة إنسانية مشتركة، واشتط في مطالبه، وكان مؤسس المملكة السعودية الملك الراحل عبدالعزيز آل سعود يسعى لتأسيس دولة تقوم على شرع الله، وتأخذ بتقنيات العصر وتنفتح على العالم من حولها بعد سنين من العزلة والانكماش، فما كان منه إلا أن أخذ على أيدي أصحاب الفتنة كما أخذ على أيدي اللاحقين، والمتأثرين بأدبيات ذلك التيار السابق المتشدد والمنغلق ذهنيًا وفكريًا وحضاريًا، ومع مطلع القرن الخامس عشر شهدت بلادنا كذلك بروز أول تيار تجديدي في الأدب، وهو ما عرف باسم تيار الحداثة، وإن كانت جذور هذا التيار تمتد إلى الستينيات والسبعينيات الميلادية، وهو تيار متأثر في مشروعه الفكري برموز مجلة شعر من أمثال أدونيس وكمال أبوديب، ويوسف الخال ومحمد الماغوط، وكان يمكن لهذا التيار التجديدي أن يكون تأثيره فعالاً في الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية لولا أنه هو الآخر مارس عند بعض منظريه إقصائية رغم أنه جاء لينتشل الساحة الثقافية والأدبية منها، وجاءت حرب الخليج الثانية وتداعياتها، فألقت بظلالها على هذا التيار، فخفت صوته لأمد، ثم أدرك العقلاء في هذا التيار، كما عبر الأستاذ والناقد سعيد السريحي بأن الحداثة خيار، وكانت هذه المقولة الجريئة من الزميل السريحي بمثابة جرس إنذار للآخرين بأن يعدلوا من مواقفهم المتشددة بعد أن توهم البعض بأنه بإمكانهم فرض مذاهبهم الفكرية قسرًا وتعسفًا، وهو الشيء الذي أدركه الكاتب البريطاني "طارق علي" وزميله "بيتر تاتشل" في المجتمع البريطاني حيث رفض الفرد الغربي، والذي يقدس حرية الفكر، تلك المفاهيم اليسارية والتي تدعو للتغيير عن طريق القوة، ويذكر المفكر البريطاني هييلي Healey بأن ما عرف في أواخر السبعينيات بـ(Militant Tendency) هي جماعة فكرية انفصلت عن التروتسكية، نعم لقد رفض الفرد تلك المفاهيم ورأى فيها خطرًا على الثقافة التعددية للمجتمع، وهو نسق حضاري تحرص الأمم الواعية على الحفاظ عليه وعدم المساس بأسسه وضوابطه ومحدداته.
مع مطلع القرن الخامس عشر الهجري شهدت مدينة (جدة) أيضا ولادة الاثنينية على يد شخصية اجتماعية وأدبية معروفة، وهو الأستاذ عبدالمقصود خوجه، فوالده هو الأستاذ الرائد محمد سعيد عبدالمقصود الذي شارك زميله الأستاذ عبدالله بلخير في إصدار أول بيان جماعي للأدباء السعوديين وهو كتاب "وحي الصحراء".
وكان لبيئة "جدة" التي انصهرت فيها أجناس عدة وثقافات مختلفة، دور فعّال في أن تستطيع إثنينية الخوجة أن تجذب إليها البقية من جيل الرواد من أمثال: علي وعثمان حافظ، وصالح وأحمد جمال ومحمد سعيد العامودي وأحمد عبدالغفور خطار، وعبدالقدوس الأنصاري، ومحمد حسن فقي، وعزيز ضياء، وحسين عرب، وعبدالله بلخير، وياسين طه، وأحمد عبيد المدني، وعمر عبدربه، وأبوتراب الظاهري.. ومن خلال تكريم الأستاذ الخوجه لجيل الرواد أو من تبقى منهم استطاعت الاثنينية أن تؤرخ لحقبة أدبية هامة في بلادنا، كان يمكن أن تضيع حوادثها وتنسى ملامحها لولا توفر الخوجه على تثبيت وقائع ذلك التاريخ.. ومن أهمه خلفيات ذلك السجال الشعري الذي كان قطباه الشاعران الرائدان حمزة شحاتة، ومحمد حسن عواد، وكيف كان جيل الرواد بموسوعيته وثقافته الشاملة يتوزع في دوائر معينة، وتعمل كل دائرة من تلك الدوائر على جذب المناصرين والأشياع، كما حدث في الخلاف الفكري بين العواد من جهة، والعطار والأنصاري من جهة أخرى، أو بين العطار والزيدان وكذلك بين حمد الجاسر وعبدالقدوس الأنصاري، وبين عبدالكريم الجهيمان ومحمد عمر توفيق وبين الظاهريين أبوتراب وعبدالرحمن بن عقيل، ثم خلاف فكري كان أبطاله من أجيال لاحقة كما حدث بين الراحل عبدالله نور وصديقه مشعل السديري حول مصطلح اللامنتمي في أدب كولن ويلسون، وكان ذلك في أواخر الثمانينيات الهجرية، وهي خلافات في الرأي أثرت الساحة الأدبية، بل إنها ساعدت في تكوين وتشكيل ثقافة الأجيال اللاحقة، ولم يغفل الرائد عبدالمقصود دور الأجيال اللاحقة من أكاديميين وغيرهم، وكما اهتم بجيل الرواد فلقد أولى اهتمامًا مماثلاً لجيل الشباب وكرم بعض رموزه، وامتد أثر الاثنينية لخارج البلاد، فكان لهذا المنتدى الأدبي الفضل في إيجاد صلات ثقافية وفكرية بين أدباء هذه البلاد ونظرائهم في البلاد العربية الأخرى، ومن خلال الإثنينية وقفنا على جهود رموز الأدب والنقد في العالم العربي من أمثال الدكتور ناصر الدين الأسد، وسلمى الجيوسي، والشيخ عبدالفتاح أبوغدة، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، والدكتور شاكر الفحام، والدكتور مصطفى محمود، والدكتور وهبة الزحيلي، وزكي قنصل، ومختار السلامي، ومحمود السعدني، وفهمي هويدي، ومحمد عمارة وغيرهم.
كان الأستاذ الخوجه يقف في دائرة الوسط بين جميع التيارات الفكرية والأدبية، فلم يتحيز لتيار ضد آخر، ولم ينسق خلف أيدلوجية معينة من شأنها إفساد مشروعه الثقافي، بل كانت منازعه إنسانية محضة، وهي تكريم من يستحق التكريم، سواء رضي عنه البعض أو سخط عليه آخرون.
لقد أكمل الأستاذ عبدالمقصود الدور الذي اضطلع به الأستاذ محمد سرور الصبان من قبل، فأخرج أعمال رواد الثقافة والأدب في بلادنا في مجلدات أطلق عليها مسمى الأعمال الكاملة، ولاشك أنه في سبيل إنجاح هذا المشروع الذي تزامن مع اختيار مكة المكرمة عاصمة للثقافة قد تحمل الكثير، وخصوصًا لجهة البحث عن الأعمال المفقودة أو المتناثرة لأدبائنا ومفكرينا.
كان عبدالمقصود خوجه وفيًا مع أصدقاء والده من أمثال الأساتذة عبدالله بلخير، وأحمد ملائكة، والسيد عقيل عطاس، والشيخ محمد سفر، ويعترف بدور علماء الحرم المكي الشريف في تكوين ثقافته، فهو يذكر مشائخه من أمثال السيد علوي المالكي والسيد محمد أمين كتبي، والشيخ محمد العربي التباني يذكرهم، ويعترف بفضلهم، وسمعته يومًا في دار المرحوم السيد المحدث محمد علوي المالكي يعترف بأن فضل السيد علوي المالكي المدرس بمدارس الفلاح والحرم المكي الشريف كان كبيرًا عليه، وأنه يدين له بالفضل وللرعاية التي أولاها إياه صغيرًا، وكان ذلك دأب المشايخ والعلماء الربانيين، وللتاريخ فإن الأستاذ الكبير عبدالله بلخير حدثني مرة عن دور مدارس الفلاح، وتحديدًا شخصية شيخه السيد علوي بن عباس المالكي في توجيهه لدراسة الأدب حتى أضحى واحدًا من أشهر شعراء العربية في عصره.
ولقد حمدت للشيخ عبدالمقصود، وهو يسألني ذات مرة عن الإنسان الراوية عبدالعزيز محضر -رحمه الله- رغبة منه في زيارته، لأنه كان من زملائه في مدرسة الفلاح بمكة، كما حمدت له عند وفاة الأستاذ أحمد ملائكة بأن تلقى العزاء فيه شخصيًا في داره وفاء لصداقته مع والده رحمهما الله.
واليوم مع مرور ربع قرن من الزمن على إنشاء الاثنينية فإن من واجبنا أن نهنئ الأستاذ عبدالمقصود على هذه المأثرة التي أقامها للفكر والأدب في بلادنا، حتى أضحت جزءًا من كيان مدينة جدة، فلا تذكر هذه المدينة بيمنها، وشامها ومظلومها إلا ويشار للاثنينية كمعلم حضاري وفكري فيها، وقريبًا من الأرض التي شهدت مولد نبي الأمة وهاديها وشفعيها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وتنزلت بين سفوحها ووديانها وجبالها آيات الوحي الإلهي المعظم، والذي كانت كلماته الأولى في غار حراء اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم (العلق: 1-5)، وأن أمة كان أول توجيه إلهي إليها بطلب العلم لجديرة أن تستهدي بذلك التوجيه في حياتها، وتستنير بأخلاق وسلوكيات نبيها ومعلمها عليه صلوات الله وسلامه، الذي وصفته آيات الوحي بالخلق العظيم، وصدقت السيدة عائشة رضي الله عنها وعن أبيها عندما سئلت عن خلقه صلّى الله عليه وسلّم فأجابت: (لقد كان خلقه القرآن)، وإن الأجيال الحاضرة لمدعوة أن تتمعن في سيرة الرجال الأفذاذ الذين مشوا على الأرض تواضعًا وحبًا وودًا، وأن نصون تاريخ أولئك الرجال من كل ما يمكن أن يشوهه، فكل أمم الأرض تفخر برموزها، ولا ترضى أن تمتد إليهم الأيدي العابثة، وإذا كنت قد بدأت الحديث بالشيخ والأديب والوطني محمد سرور الصبان فإنني أتوجه في خاتمته للأستاذ عبدالمقصود، وهو من يقدّر الرجال ويعرف منازلهم، بأن تقوم الاثنينية بتوثيق سيرته، فلم يبق من الرجال الذين عرفوا ذلك الفارس الشهم الكريم إلا القليل، وهم مدعوون، وفي مقدمتهم الأستاذ أمين عبدالله، بتقديم شهاداتهم إزاء هذه الشخصية التي أضحت جزءًا من تاريخ هذه الأرض فكرًا وأدبًا وثقافة.
 
طباعة
 القراءات :298  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 74 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج