شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رجال عرفتهم وأدباء صحبتهم
عبدالله سلامة الجهني (1347-1409هـ)
كنا في زمن النشأة ببلد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ومعي أصدقاء باعدت ظروف الحياة ومشاغلها بيننا حتى لنكاد ننكر بعضنا بعضًا، كنت وإياهم لا ننقطع عن المسجد النبوي الشريف الذي هيأ لنا بأجواء التسامح وسعة الأفق والمشرب آنذاك قسطًا لا بأس به من الثقافتين الدينية والأدبية، وكان من أساتذتي في المرحلة الثانوية رجل سلب منه نور البصر وأعطي نور البصيرة، وكانت فيه حدة لا يطيقها البعض ولكن رغبتي في الاستزادة من العلم الذي يجيد أدواته ووسائله هذه الرغبة وما طبعت عليه آنذاك من عدم القدرة على المواجهة حتى استضعفني البعض أو استقوى علي، كل ذلك كان يدفعني لأبسط الكتب بين يدي أستاذي حسين الخطيب -رحمه الله- فأقرأ عليه في السيرة النبوية أو كتب القوم من أمثال: "الرعاية لحقوق الله" للحارث المحاسبي، وقواعد الأحكام للعز بن عبدالسلام.. وطلب مني الأستاذ الخطيب يومًا أن أقوده لوضع غير بعيد عن المحراب السليماني في البناء المجيدي للحرم النبوي، ووجدناه سويًا، رجل قد نحل جسمه ولم تضعف قواه، كان حاد النظرات حتى إذا رآنا خفض بصره وتوجه إلى حقيبة متآكلة وأخرج منها كتابًا ليقرأه، سلم عليه أستاذنا الخطيب وعلى غير عادته تحدث معه برفق فإذا أنا أسمع حديثهما، "أريدك أن تصحبني في الحرم لتساعدني على القراءة في أمهات الكتب.. فهؤلاء الطلاب وأشار إلي- يهربون مني ولا أجدهم عندما أريدهم، وألمح الأستاذ الخطيب للرجل الذي أسند ظهره لواحد من أعمدة المسجد المنحوتة من جبال الجماوات بأنه سوف يكافئه ماليًا على مساعدته إياه في القراءة.
حدق الرجل النحيل في جدار المسجد، وتمتم بكلمات لازلت، على رغم ما يزيد على ثلاثين عامًا على هذه الحادثة، نعم لازلت أتذكرها بكثير من الإعجاب والإكبار قال: الأستاذ عبدالله سلامة الجهني للأستاذ الخطيب: "عجيب أمر هذه الدنيا أهرب منها في الخارج فتأتيني في داخل المسجد". وأردف يقول: يا أستاذ "حسين" لقد زهدت في كل شيء ولم يبق لي شيء أستمتع به في دنياي سوى ما اقرأه أو أكتبه، وودعناه لنعود إلى باب جبريل حيث الصفة، أو دكة الآغوات، وحيث رجال يرتلون القرآن ويتذاكرون العلم من أمثال: المشائخ أحمد عبدالجواد، وجميل شيناوي، وعباس صقر، وحسين أبوالعلا، رحمهم الله، وحيث الأدلاء يقفون صفًا ليأخذوا بأيدي الناس ثم يقف الجميع أمام مثوى سيد الخلق صلّى الله عليه وسلّم مرددين في سلامهم عليه وعلى صاحبيه رضي الله عنهما قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا (النساء: 64).
أكبرت شخصية الأستاذ الجهني التي عُرف بمقالاته التي كان يكتبها في الصحف بعنوان أفكار بيضاء، وبروايته للشعر بضربيه الفصيح والنبطي، لقد أعطته البادية صفاءها، ونقاءها وكرمها وشهامتها وأعطته الحاضرة في المدينة، بلد النور والرسالة، ثم أرض الكنانة حيث درس في كلية دار العلوم فكان من جيل الدرعميين المتقدمين في بلاد الحجاز، نعم لقد أعطته جامعة الدنيا والدين في المدينة، وجامعة الفاطميين (الأزهر) ثم مدينة بيروت، بانفتاحها على ثقافات الدنيا حيث عمل ملحقًا ثقافيًا لمدة من الزمن، أعطى من ذلك كله رقة النفس، وشفافية الروح، وسعة الأفق، وثراء المعرفة وتنوعها، وأضاف إلى ذلك كله صفاء في النفس بقراءته المتعمقة في سيرة المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، والغريب أن أستاذنا الجهني كان معجبًا بشخصية "غاندي" وانعكس هذا الإعجاب على ما يرتديه من لباس، وسألته ذات يوم لماذا لا تأكل كثيراً؟ فأجاب: أريد أن أجرب الجوع فأشعر بمعاناة الآخرين، ولم نكن لنقدر على مجاراته في القراءة فلقد كان يدخل المكتبات المتناثرة حول المسجد النبوي الشريف، عارف حكمت، المحمودية، وسواهما فيقضي الأوقات الطويلة ليشبع نهم المعرفة عنده الذي ارتضاه عوضًا عن النهم الزائل الذي سرعان ما ينقضي ويتلاشى. وكان يزورني ذات يوم في جدة وكان معنا الأستاذ النبيل محمد صلاح الدين ونخبة من رجال الفكر والأدب فتوجه للأستاذ صلاح قائلاً: اكتبوا عن مكارم الأخلاق فهذا ما تحتاجه الناشئة في هذا الزمن، وكانت موجة الحداثة آنذاك على أشدها في الثمانينيات الميلادية، فقال بعضهم: إن البعض منهم لا يعترف بالآخر، فالتفت إليه ليقول له: اضرب لهم مثلاً من نفسك بالقبول بالآخر، واليوم ونحن نتحدث في منتدياتنا عن الحوار والانفتاح على الآخر أتذكر مقولته، والتي تدل على شخصيته التي هضمت الكثير من الأفكار والآراء فكانت هذه الأريحية في كل شيء وكان هذا الاستشراف الذي إن فقد عند البعض فلقد توطن عند أستاذنا الجهني معرفة وسلوكًا وسمعته ذات يوم يخاطب فضيلة طيب الذكر السيد محمد علوي المالكي الحسني في درسه بعتبة باب السلام في الحرم المكي الشريف في التسعينيات الهجرية يقول له: يا سيد العلماء مطلوب منهم ألا يقفوا على أبواب الأثرياء وذوي الجاه حتى يحفظوا للعلم حقه، ويصونوا هيبته ويردوا له استقلاليته التي عرفناها عن علماء في تاريخنا الإسلامي المشرق من أمثال سلطان العلماء العز بن عبدالسلام، رحمه الله، وسواه من علماء كانوا يترفعون بعلمهم ولا يتكسبون به.
اتصل بي أستاذنا الجهني ذات يوم وهو في زيارة لمدينة جدة، وطلب مني أن أصحبه للخروج للبحر وذكرت له أنني لست من عشاق الأمواج المتكسرة ولكنني أعشق البادية بطبيعتها وهدوئها، وسكينتها ولعل ذلك يعود لطبع ورثته عن والدتي -رحمها الله- التي نشأت في بادية "حرب" قبل أن ننتقل إلى طيبة الطيبة، فرضيت بها مسكناً وموئلاً واقترحت عليه أن نجتمع كالعادة في المنزل ليلتقي بأحباب يميلون إلى بساطته وطيبته، ففعل، وما كانت أعلم ما تخبئه الأقدار فلقد طوى الغيب الإلهي ذلك عنا لحكمة أرادها المولى عز وجل في أزله، وذهبت يومًا لمراجعة الدكتور محمد إقبال سناي ليقيس لي ذبذبات "الصامت-القاتل" ضغط الدم، وكنت أجلس في العيادة منتظرًا دوري للدخول على الطبيب وأمسكت بصحيفة المدينة فإذا هي تنعى لقرائها كاتبها عبدالله سلامة الجهني، فآثرت الانصراف والعودة إلى الدار، لقد واراه الثرى في "أمنا حواء" وكان يتطلع إلى ثرى الأرض التي عاش بين مسجدها وحرتها حيث كان يسكن، طيب الله أرضًا اتسعت أكنافها لذلك الجسد النحيل وتلك الروح الشفافة، ولقد دفن مع الجهني علم وتاريخ وأدب.
 
طباعة
 القراءات :1210  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 62 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج