شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
"طيبة الثانوية" والراحلون من رفاق الدرب
قبل ما يقرب من أربعين عامًا تحقّق للفتى ما كان يتطلّع إليه كبقيّة أنداد جيله وهو الانتقال من المرحلة الإعدادية إلى المرحلة الثانوية، وكانت "طيبة الثّانوية"، الثانوية الوحيدة في المدينة المنوّرة، والتي تأسّست عام 1362هـ، تشكّل تحدّيًا لجيل تلك الحقبة، وكان الناشئة يمرّون بالقرب من ذلك البناء الحجري العتيق في باب العنبرية، وربما لا يعلمون أنه كان المكان الذي عزم السلطان عبدالله لحميد الثاني على إنشاء جامعة إسلامية فيه؛ ولكن سياسة الغرب كانت تسعى للإجهاض على الرجل المريض، واقتسام مناطق النفوذ في منطقة الشرق الأوسط فلم يتحقّق لعبدالله لحميد حلمه، وتحقّق لأبناء الجوار الكريم حلمهم في عهد المؤسّس المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود .
في طيبة الثانوية عرف الفتى وجوهًا جديدة من أحياء مختلفة من المدينة المنوّرة، أما الإخوة هاشم وعبدالله الرحمن وبسّام عبدالله يماني فقد عرفتهم قبل ذلك؛ فلقد كانت منطقة السيح المطلّة على مجرى سيل أبي جيدة تجمع الكبار والصغار من حوش "عميرة" وحوش "منّاع"، وزقاق "السيد أحمد"، يلهون ويلعبون ويحاولون أن يقلّدوا الكبار، فيمسكون بالعصي ويلوحون بها، فلقد كان "القشاع" رياضة ذلك الزمان المنصرم، وكان تسلّق أشجار النّبق والسدر ممّا يجد فيه ذلك الجيل متعة كبيرة، وشتّان ما بين الأمس واليوم .
في عام 1391هـ أُنشئت مدرسة "أُحد الثانوية"؛ وكنّا الدفعة الأولى في قسمها الأدبي، وهناك قربتُ أكثر من رفاق الدرب مثل الشريف هاشم عبدالله، وعلي حمزة غرارة، وطه عويضة، وزين ردادي، وأحمد كاتب، وصبري عويضة ومنصور وسعود حكيم، ومحمّد وحمزة بكري، وطلال هاشم، وعمر كمال، ومحمّد شحات خطيب، ومحمود قمر، وأحمد السديري، وعلي الفُرِّي وسهل خاشقجي الذي زاملته من قبل في دار العلوم الشرعية، وعبدالحميد علي عمر، وليعذرني إخوة كرام لم تسعفني الذاكرة في إيراد أسمائهم.
ولفت نظري وجود شاب طموح يزاحمنا على الأولوية في كثير من المواد العلمية وهو عبدالعزيز محمّد رشوان، وكنت قد تعرفت إلى أخيه الأصغر عمّار؛ حيث كنت أقطع الطريق من "السيح" إلى "الشونة" ، ثم إلى "باب جبريل".
يرن الهاتف قبل مغرب يوم الأربعاء الماضي؛ فإذا المتحدّث صديقي إحسان محسن برِّي ليسألني هل أنت في المدينة؟ أطلق آهات يعرف مداها ومعناها "أبو محسن" ، إنني في منزلي في جدة يؤرقني البعاد عن أرض الميلاد والنشأة . ثم يتهيّأ لينقل لي خبر وفاة" عبدالعزيز رشوان" ، ثم يلحق به أخي وصديقي الدكتور بندر حمزة حجار - الذي زاملته مع الأخ يوسف ميمني في كُتّاب الشيخ محمّد علي الحلبي في آخر سوق القفاصة، وعلى مدخل حي الساحة من جهة المناخة - وكان هذا ما بين عامي 1378هـ-1379هـ، وأترك لهما الحرية في الاعتراف بهذه الزمالة؛ لأنها ربما تكشف الأعمار أو تحددها أو تقاربها والله وحده العليم .
بندر حجّار نشأ في زقاق "الزرندي" بـ" سويقة" وغير بعيد عنه نشأ عبدالعزيز في مقعد بني حسين، حدثني"بندر" بحزن على رحيل "عبدالعزيز" ، وجدت دموعي تنهمر حزنًا وأســى عليه وعلى رفاق وزملاء قبله فارقونا من دار الفناء إلى دار البقاء، منهم محمّد عبدالعزيز بن صالح؛ الذي أكاد أجزم بأن القلة من جيلنا من كان في أناقة وتهذيب وتواضع " محمّد" ! وكانت داره مفتوحة للجميع - كان الوالد فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح - يجلس أسفل الدار مع المشايخ عبدالمجيد حسن، وعبدالله بن عثمان الصالح- والد معالي الدكتور ناصر الصالح - وعبدالله بن زاحم وعبدالرحمن الحصين وعطية سالم، و محمّد الحافظ، ومحمّد الثاني ، و محمّد حميده وسواهم وكان " محمّد" يستقبل أصدقاءه في أعلى الدار، ولا تزال مكتبتي في المدينة تحتفظ بكتب تحمل إهداءه الرقيق من مثل مؤلّفات العقّاد، وطه حسين، والرافعي .
جيل الأمس كان يقرأ ويجد في تحصيل الثقافة، وجيل اليوم يجد متعته في أشياء أخرى، وصعب علينا أن نحمل أبناءنا على ما حملنا أنفسنا عليه؛ بل الأصعب على هذا الجيل أن يتفهّم كيف كنا نرضى بالقليل واليسير من كل شيء، ولقد كان شظف العيش زادنا في مسيرة تراوحت أيامها ولياليها بين القوة والضعف، والفرح والحزن، والقرب من الديار والنأي عنها، ووفاء البعض وجحود البعض الآخر وتنكرهم، ممّا يجعل الحياة لوحة ينعكس عليها ما هو جميل تسرّ به النفس، وما هو قبيح تنفر منه النفوس السويّة التي طبعت على حبِّ الإحسان والميل إليه، والاستزادة منه، والإشادة به؛ لأنه أصل الفطرة الإنسانية التي خلق عليها الإنسان في النشأة الأولى .
لعلّه من باب الوفاء أن أذكر صديقين وزميلين من رفاق الأمس الجميل؛ رحلوا عنا في غفلة من الزمن، أوّلهما علي الغرّي الذي كان وديعًا منذ نشأته، وأسرته في قباء مثل آل عباس، وحلِّيت بن مسلم، وطه صقر والكماخي والبادي وغيرهم، منازلهم وبساتينهم مفتوحة للقريب والبعيد، ومع أن المرحوم علي اختار المهنة العسكرية في حياته؛ فلقد بقيت رقّته ووداعته تلازمه وهو يعمل في هذه المهنة الصعبة، وأتذكّر أنه بعد أيّام من وفاته هاتفني أحدهم لعلي أعرف من يقضي له حاجة سريعة وصعبة في آن، فكان جوابي لقد رحل "علي الغرِّي" الذي كان بإمكاني أن أتحدّث إليه بشفافية، وأجزم أنّه كان قادرًا بنيّته الطيبة أن يجد مخرجًا لهذا الأمر، وأردفت قائلاً : وفي الليلة الظلماء يُفتقد البدر .
أما الزميل الآخر فكان من حي باب المجيدي وهو الأستاذ عبدالحميد علي عمر فلاته، والده من طلبة العلم في الحرم النبوي الشريف، وصهره المربّي المعروف الأستاذ إبراهيم آدم -رحمه الله –. كان عبدالحميد زميلًا في "أُحد الثانوية" على عهد أستاذنا الفاضل عبدالله خطيري، ثم التقينا في مكّة المكرمة في قسم اللغة العربية وكان ودودًا وأنيسًا وصاحب نكتة، وكانت فيه خصلة فريدة فإذا ما حصل ضيم على أحد من رفاقه فإنه عندئذ تجده ذلك الشجاع الذي يهابه الآخرون في "الحلقة" ، ورأيته مرة في المدينة المنوّرة وبالقرب من برحة" البقيع" كيف يلوّح بالعصا ببراعة وهو غاضب وثبت في موقف لا يستطيع أنداده أن يقفوا مثله، وكما عرفت "العبرية" ، و" السيح" ، و"قباء" ، و"المناخة" ، فلقد عرفت الساحة حارة الأغوات، وباب التّمار، ورباط عزّت باشا، وكان الناس في المدينة يعيشون كأسرة واحدة لا يفرّقهم لون ولا جنس.
ولعلي أختم هذا المقال الذي استوحيته من الحدث الجلل الذي هزّني بقوّة وهو وفاة الزميل عبدالعزيز رشوان -رحمه الله رحمة الأبرار- ، وحديث الذكريات مع الصديق بندر حجّار، أختمه بعبارات دبّجتها يراعة الدبلوماسي والأديب معالي الدكتور نزار عبيد مدني في تقديمه للكتاب الموسوم "حارة المناخة"..
يقول الأديب نزار مدني عن الخصائص المشتركة لسكّان الجوار في طيبة الطيبة: "ولكن ما يبدو أغرب وأعجب هو أنّ كلّ النّاس الذين يعيشون في هذه المدينة المنوّرة، أو حتى يقيمون فيها بصورة مؤقّتة؛ سريعًا ما يصبح لهم ما يمكن أن يسمّى بالمزاج المشترك، وبالتالي السلوك المشترك، والتعبير الوجهيَّ المشترك، ذلك أنّهم جميعًا قد جذبتهم شخصية النبي صلّى اللّه عليه وسلّم الذي كانت هذه المدينة مدينته، والذين هم ضيوفها الآن".
اللهم ارزقنا محبّة حبيبك وصفيّك سيّدنا محمّد صلّى اللّه عليه وسلّم، واجعلنا ممن يوقّره ويعظّمه كما أمرتنا بذلك في كتابك، وارزقنا شفاعته يوم يهرع النّاس من ذنوبهم فلا يجدون غير مُحيّاه الطاهر شفيعًا لهم ورفيقًا.
 
طباعة
 القراءات :344  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 61 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج