شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الشّيخ محمد صالح المحضار
وضروب من منابع الفكر والأدب في المدينة المنوّرة
يعيش هذه الدنيا أناس يكرّسون حياتهم للآخرين أكثر من التفاتهم لحياتهم.. من هؤلاء الفقيد الذي ضمه ثرى بقيع الغرقد قبل أيام قليلة وهو السيد محمّد صالح المحضار. فلقد تفتحت أعيننا في بلد المصطفى صلّى الله عيه وسلّم على حلقات الدرس في مسجد سيد الأولين والآخرين، وشفيعهم، وحجتهم، وهاديهم إلى طريق الهدى والفلاح، محمّد بن عبدالله عليه صلاة الله وسلامه. وكان من هذه الحلقات ما هو مخصص لحفظ القرآن الكريم، وفي مقدمتها حلقة فضيلة الشيخ حسن الشاعر، شيخ القرّاء بالمدينة المنورة لمدة تزيد عن نصف قرن من الزمن، وفي منزل الشيخ الشاعر رأيت لأول مرة السيد محمّد صالح المحضار. فلقد كان منزل الشيخ الشاعر يحتضن العلماء الوافدين لزيارة سيدنا رسول ا لله صلّى الله عليه وسلّم، ومسجده الطاهر، وآثاره المباركة التي عفا على كثير منها الزمن، فأضحت رسومًا لم يدركها البلى، كرسوم الشعراء وأطلالهم، ولكن أدركتها عوامل التغيير والإزالة والدرس.
كما كان القرّاء من حفظه كتاب الله يقصدون حلقة الشيخ الشاعر وداره؛ فمكة المكرمة، والمدينة المنورة هما مَن تُشد الرحال لمسجديهما طلبًا للعلم، وخصوصًا للإجازة إسنادًا يُروى، وعلمًا يورّث.
في منزل فضيلة الشيخ الشاعر-رحمه الله – وفي عام 1384هـ تحديدًا سمعتُ السيد المحضار يقدّم السيد محمّد النجار واحدًا من كبار الحفظة لكتاب الله، وكان صاحب صوت شجي، ولحلاوة صوته كان يُدعى >بلبل المدينة المغرّد"؛ وكما أن المدينة بلد التوحيد والإيمان، والعلم الشرعي، وعلوم اللغة والآلة، فهي بلد الأدب والشعر. وأورد الراوية الثبت ابن سلّام الجمحي أن النابغة قدم المدينة قبل الإسلام وكان في شعره إقواء وهو عيب من عيوب القافية، ونص ابن سلّام في طبقاته يقول: " وأهل القرى -المدن- لطف نظرًا من أهل البدو، وكانوا يكتبون لجوارهم أهل الكتاب، فقالوا للجارية إذا صرت إلى القافية فرتّلي، فعلم النابغة وانتبه، وقال: قدمت الحجاز وفي شعري صنعة" وفي رواية أخرى "وفي شعري صنعة ورحلت عنها وأنا أشعر الناس"، وقد رقّق الإسلام الشعر عند أهل الجوار، وارتفع به من عوالم الحسِّ إلى فضاءات الطهر والعفاف، وأشواق الروح.
كان المسجد النبوي يحفل بحلقات العلم، وأكثر ما يكون مهيأً لهذا الواجب، الذي اضطلعت به المدينتان المقدستان في شهر رمضان المبارك، وكان السيد المحضار يفتتح درسًا لقراءة كتاب صحيح البخاري، وقد ذكر لي الابن الدكتور سعيد طولة معلومة هامة، وهي أن أول من قدّمه السيد المحضار لافتتاح هذا الدرس من علماء المدينة هو محدّث الحرمين الشريفين الراوية الثبت الشيخ عمر حمدان المحرسي، الملقب بمحدّث الحرمين، 1293- 1368هـ، وبالتالي يكون عُمر هذه الحلقة التي رعاها السيد المحضار ما يزيد على ستين عامًا، وقد أدركت في الثمانينيات الهجرية جموعًا من بلدان العالم العربي والإسلامي تؤم هذه الحلقة المباركة، وما دمت بصدد ذكر شيء من تاريخ البلدة المباركة، فلا بد لي من أن أعرّج على دار الشيخ حسين أبوالعلا -رحمه الله- وبستانه المعروف في بداية شارع قربان.
فلقد كان الشيخ أبو العلا -هو وأبناؤه- من حفظة كتاب الله الكريم، وكان يقيم في اليوم الأول من عيد الفطر المبارك اجتماعًا علميًّا يتنافس الناس على حضوره . ولقد أدركت عددًا من العلماء المشهورين بعلمهم يعظون الناس في دار الشيخ أبو العلا، من أمثال المشايخ: محمود الصواف، والسيد علوي المالكي، والسيد محمّد المنتصر الكتاني، والشيخ محمّد نور سيف، والسيد حسن كتبي، والشيخ حسن الطّنون، من علماء السودان المعروفين، كما كان كبار الحفظة لكتاب الله من أمثال الشيخ زيني بويان، والشيخ علاء الدين البكري، والشيخ محمّد علي السمّان، والشيخ محمّد الكحيل، يؤمّون دار الشيخ حسن الشاعر، وحسين أبو العُلا، والسيد محمّد صالح المحضار كما كانت دار فضيلة الشيخ عبدالعزيز بن صالح من الدور التي أثرت الحركة العلمية والفكرية في مدينة الرسول صلّى الله عيه وسلّم.
والعلاقة بين الحرمين الشريفين، وحواضر العالم الإسلامي تمتد لقرون عديدة، ولكنها كانت أكثر ازدهارًا في العصور السابقة . فعلماء من أمثال : شكيب أرسلان ، وجمال الدين القاسمي، وعبدالحميد بن باديس، والبشير الإبراهيمي وسواهم تلقوا شيئًا من العلم على علماء المسجد النبوي الشريف .
كان من سمات السيد المحضار الوقار والسكينة، وكان يسخّر جاهه لخدمة الآخرين، وخصوصًا لذوي الحاجة، وكما كانت داره في المدينة موئلاً لأهل العلم، فكذلك الحال بالنسبة لداره في السوق الصغير بمكة المكرمة .
والآن بعد أن طَوَّفَتْ بكاتب هذه السطور الذكريات ما بين الحجون والصفا في مكة، وما بين العينية والساحة وباب المجيدي في المدينة، فإنني لأشعر بكثير من الحزن يتبطن نفسًا فُطرت على الحنين للماضي الجميل الذي كان فيه حسن الظن، وجميل الوداد، ونزعة صنيع الجميل، والمعروف والإحسان، ووعظ الآخرين بكثير من الدِّعة والرِّقة واللطف . . كل ذلك هو ما يربط نفوس الناس ببعضهم البعض، ويزداد هذا الحزن، ويتعاظم عندما يتهادى إلى مسمعي رحيل الرجال الذين صنعوا -بتوفيق الله- ما يقرِّبهم إليه زُلفى من صالح الأعمال، وجميل الفعال، فرحم الله أبا أسامة، وزين . . والعزاء لآل المحضار، وآل الشاعر، واللهم اختم لنا، ولإخواننا، ولأمة سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم بالإيمان، وأكرمنا بجوارك وجوار حبيبك المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وصحابته وآل بيته رضوان الله عليهم .
 
طباعة
 القراءات :298  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 59 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج