شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أوراق مطوية من سيرة الإنسان أحمد النعمي..
داخل مبنى صحيفة المدينة.. المكان الذي انطلقت منه كتابات الدكتور أحمد النعمي وشهد مداخلاته الصاخبة ونقاشاته العلمية حول الأدب الأندلسي، في هذا المبنى لهذه الصحيفة الغراء يأتيني صوت الزميل الدكتور هيثم زكائي ليسألني (هل تعرف أحمد النعمي؟)، فأجيب نعم إنه زميلي في قسم اللغة العربية لأكثر من عقدين من الزمن، يتم حديثه في شيء من الترقب الذي كنت أحس به وهو أقرب إلى حالة الخوف والذعر التي انتابتني من سؤال الأخ والزميل والصهر الكريم، وكانت الإجابة متممة لذلك المشهد لقد انتقل إلى رحمة الله، ولعله من لطف القدر أن يكون شريط دواء ضغط الدم في محفظتي، أمسك بقدح الماء في شيء من تصاعد دقات القلب التي لازمتني صغيراً وكبيراً والتي تنعكس على قبضة مرتجفة لذلك الكأس أحاول أن أخفي رعشتي.. خوفي.. قلقي.. فتفضحني حبات العرق التي تناثرت على جبيني، أننا بشر خلقنا لنخاف ونثبت، لنضحك ونبكي، ونقوى ونضعف ونشمخ ونتواضع، ونغنى ونفقر، ونشيخ ونهرم، ثم يأتينا المصير المحتوم، الخروج من الدنيا كما جئنا إليها دون أن نأخذ منها شيئاً سوى كلمة طيبة وفعل جميل ورجوع إلى طريق الحق وسبيل النجاة.
أعود إلى شيء من هدوئي أجدني محاطاً بزميلنا رئيس التحرير الدكتور فهد عقران، وأبنائي وزملائي محمد المنقري وعادل خميس، جميعهم يعرفون الفقيد النعمي، ويخبرني الزميل فهد أنه، فقط قبل أيام، استلم منه موضوعاً ومعه عبارة مقتضبة تحمل شيئاً من روحه الساخرة التي عرف بها، ومن الطبيعي أن نتساءل لماذا جرى قلمه في مقاله الأخير الذي كتبه بصحيفة المدينة بما يمكن تحديده نصاً عن النشأة الأولى بين سفوح تهامة وسمائها التي تجود دوماً بالمر، إنها المنابع الأولى التي نعود إليها دوماً كلما شعرنا بقسوة الحياة وغلظتها، كلما تلقينا السهام وأصعبها تلك التي تأتي من أناس يفوت عليهم في لحظات الشعور بالقوة أن الحياة تتسع بالحب والتسامح وتضيق بالحقد والضغينة والكراهية.
لقد أوجز زميلنا الأستاذ الدكتور عبدالمحسن القحطاني شمائل الفقيد النعمي عندما قال لابنه الأكبر وائل معزياً: لم يخطئ النعمي يوماً في حق أحد ولكنه إن أخطأ ففي حق نفسه.. فلقد استولت الثقافة على حياة الفقيد حتى نسي حظه من الدنيا ونصيبه من رعاية الصحة.
أستعيد الأيام الخوالي.. كان باب غرفته في القسم بالجامعة ليس بعيداً عن بابي، كان صوته يأتيني دائماً مع جمع كبير من طلابه الذين أحسوا ببساطته وتواضعه، كانوا يلاحقونه من مسرح المحاضرات التي كان محورها أدب الأندلس الذي يتميز فنياً بالرقة وانسياب العاطفة ونسمات الحب العذري وكأنه يذكرنا بشعر مجنون ليلى، وجميل بثينة، وكثير عزة والذي نشأ في بداية الحجاز وقلب نجد ليستقر بعد زمن مع الهاربين من الشرق وليكون هروبهم مدعاة لحنينهم في الغرب وباعثاً لأشواقهم، وربما مرقداً أزلياً لآمالهم.. تلك الآمال التي تساور قلوب المحبين فينشدون ويطربون ويفرحون ثم يقضون.
كان الزميل النعمي لا يضيق بتلك الملاحقة من أبنائه وكان البعض يأخذ عليه أنه سخي مع طلبته وما علموا أنه جُبل على السخاء، وطبع على البذل فكان يرى فيهم أبناءه، الذين طبع حياتهم بالجد والمثابرة، ولم يختلف اثنان يوماً على أن أحمد النعمي كان صاحب حافظة قوية في تاريخ الأندلس وأدبه وملاحمه، وكان إذا تحدث لا يحتاج إلى مدوّنات أمامه، كانت المدونة هي الذاكرة وكان النبع دوماً حاضراً، فكان يرمي بإنائه إلى قاع النبع ثم يمتح منه بقوة ويسقي الآخرين، وكنا في المحاضرات التي نستمع إليها منه في رحاب الجامعة نعجب بخطيب، صقلت بادية الجنوب عقله ولسانه في زمن اختفى فيه الخطباء المفوهون، وأتذكر أنني كنت أعمل مع صديقي الوفي الزميل الدكتور راكان حبيب في اللجنة الثقافية بجامعة الملك عبدالعزيز، وكان من أولويات اهتماماتنا دعوة بعض الرواد من أدبائنا فاستجاب لتلك الدعوة الأستاذ الراوية والأديب محمد حسين زيدان رحمه الله، والذي نقلنا إلى تاريخ يزيد عمره عن نصف قرن من الزمن في رحاب مهاجر رسول الله ومصطفاه عليه صلاة الله وسلامه، حيث تلقى العلم في حلقات ألفا هاشم، وعبدالقادر الشلبي، والطيب الأنصاري، ومحمد علي التركي وسواهم.. وكان ممن علق على تلك المحاضرة الهامة الزميل النعمي والذي تحدث باستفاضة عن حلقات العلم في جنوب الجزيرة العربية ذاكراً مشايخه وأساتذته، فلقي تعليقه وتعليق الزميل الأستاذ الدكتور عبدالله المعطاني قبولاً عند الأستاذ الزيدان وكان من البديهيات في الساحة الأدبية أن الزيدان يعتز بآرائه، ويتشبث بما يذهب إليه من أفكار هي محصلة تاريخ طويل أسماه في مذكراته بالعهود الثلاثة.
لقد كتبت عن الزميل النعمي في حياته محتسباً وداعياً إلى تكريمه ولكن القدر كان أسرع، واليوم أكرر دعوة تحمست لها من خلال مكالمة جرت بيني وبين الزميل الأديب الدكتور طاهر تونسي وهي أن تقوم إحدى المؤسسات الأدبية في بلادنا بتجميع ما خلفه الدكتور النعمي من تراث كتبه على مدى أكثر من ربع قرن من الزمن في الصحف، والملاحق الأدبية فلعل في هذا الصنيع ما يدفع عنا تهمة لا تزال تلاحقنا في دروب الحياة ومنعطفاتها، وهي أننا المجتمع الدفّان مع أن في أدبيات تراثنا الفكري والأدبي الكثير مما يصلح الاستشهاد به، والتدليل به على أننا نصون العهد ونرعى الوداد ونرى للرجال الأفذاذ حقاً علينا وهي أن نصون غيبتهم أحياء وأمواتاً ونوسّع لهم في نفوسنا مكانة هي للأبوة الروحية والإخاء الصادقة ملاذاً حتى ترى الأجيال الحاضرة كيف يبني من سبقوهم لعمارة هذا الكون، كيف يبنون أواصر للمودة وعرى للمحبة تعلو فوق الخلافات التي هي من طبيعة الحياة ولكنها الشذوذ وليست القاعدة والطارئ من أعاصير الحياة وليس الثابت من نسماتها الروحية التي تحلق بنا في سماوات الحب، وتأخذنا إلى مدارج الرقي الروحي والكمال الإنساني الذي جاءت الأديان لترتفع بنا إلى مداراته الفسيحة، التي طالما سبحت فيها أرواح الصادقين من الرجال الذين عاشوا للحب، وقضوا في رحابه وكان الإنسان أحمد النعمي واحداً منهم رحم الله أبا وائل وألهم أهله وذويه الصبر والسلوان وفي مقدمتهم زميلنا الدكتور حسن النعمي، واللهم عفوك إن قصرنا فإننا بشر نصيب ونخطئ يا غفار الذنوب ويا من جعل الرحمة من صفاته الأزلية، وجعلها بين عباده وشيجة وقربى، ووصف بها أحب عباده إليه نبي هذه الأمة وهاديها سيدنا محمد عليه صلاة الله وسلامه، فقال في حقه: بالمؤمنين رؤوف رحيم (التوبة: 128).
 
طباعة
 القراءات :333  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 56 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.