شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(20)
بحثت عنك بين الجموع على مدخل الدار؛ فإذا أنت المحمولة على الأكتاف، وأرهفت السمع لصوتك الذي كان خفيضًا وادعًا لعلّي أسمعه؛ فإذا هو المتمدّد في عوالم الغيب والملكوت، ووجدتني أدخل البقيع في الجوار الطّاهر، فإذا أنا أدخله على غير ما تعوّدت أن أدخله في كلّ مرّة، فلقد تيقّنت أنّني سوف أخرج وحيدًا من دون قلب يحنو عليَّ، أو يدٍ شفوق تخفّف عنّي آلام الحياة، وما أكثرها في الزمن الذي أسير فيه وحيدًا..
وفي كلّ مرّة يا أمّاه عندما كانت توصد أمامي أبواب الحياة، كنت أجد المفتاح بين يديك، حيث ترفعيهما مبتهلة إلى الخالق.. أخاطبك عبر أسلاك الهاتف وأنا المغترب والرحّالة منذ يفاعة الشباب: أمّاه انهضي وصلّي وادعي الله أن يكشف الكرب، فيأتيني صوتك الرحيم، الذي أزعم أنّني لم أسمعه يومًا مرتفعًا أو حادًّا: سوف أفعل، لا تخف يا بنيّ فالله معك.. فأنطلق راكضًا في ساحات الحياة وقد تبدّد الضيق والألم، وامتلأت النّفس أملاً ووعدًا.. ترى يا أمّاه أي دار أطرق بعد أن خَلَت من وجودك جدرانها وأبوابها ونوافذها، وأي جبهة سوف تنكفئ للخالق عزّ وجلّ لتدعو لمن خلّفته بعدك يعاني تباريح الزمن وشدائده، وأي أُذن سوف تنصت لي لأبثّها مكنون النّفس وسرائرها، متهيبًا من البوح بها للآخرين ولكنّه كان عندك الجهر والكشف معًا.. علّمتني يا أمّاه وإخوة لي كيف يكون التسامح مزية، وصلة الرحم أمرًا مقدّسًا، والعطف على الفقير والمحتاج فضيلة وقُربى..
كنت تمسكين بيدي وجسدك النحيل يرتعش، والكلمات تتقطّر على لسانك حروفًا من شدّة الألم، تقولين: لقد رحل والدك، وأنت اليوم لإخوتك أب وأخ.. فأنحني على قدميك أقبّلهما، ولعلّ جيل اليوم لا يدرك معنى ذلك ومغزاه، وربّما يكون معذورًا، فإنّ من أراد أن يقطف الثّمر من جنان الدُّنيا والآخرة؛ فليبحث عن ذلك وسواه عند أقدام الآباء والأمهات، صلة ومحبّة ورضا.
ترى كيف يجرؤ قلب على هجر من بين أيديهم تتفجّر ينابيع الحبّ والحنان؟ وكيف يغمض جفن وتسكن نفس لمن يرمون بآبائهم وأمّهاتهم بعيدًا عنهم؟ هل بلغت الأنانية وحبّ الذّات بالبعض للتجرّؤ على ارتكاب كبيرة كهذه؟!
ليت الزمن يا أمّاه يعود إلى الوراء، وأكون قد قضيت كلّ الأوقات معك، أتملّى مُحيًا منك قد جلّله الوقار، وإنّني لأزعم أنّني لم أركِ يومًا ترفعين الغطاء عن رأسك؛ حتى أمام أبنائك.. تلك أخلاق ومبادئ جيل ارتضاها لنفسه؛ ولكنه لم يفرضها على الآخرين، فلم أسمعك يومًا تنهرين صغيرة على لباس، ولا ابنًا أو قريبًا على سلوك مغاير بما كنت تتمسكين به، وكنت بارة بسيد الدار -رحمه الله- تنهضين مع الصباح الباكر، لتكون مائدته مبسوطة، وعمامته الصفراء منشّاة ومكوية، وكنت يا أمّاه تتسامحين معنا في كلّ شيء؛ وكان المستثنى من ذلك كلّه ما يتصل بطاعة الأب ورضاه؛ حتّى ولو كان ذلك على غير ما نهوى ونحب، وكانت نصيحتك التي تردّدينها على أسماعنا: تجمّلوا فالزمن قصير.
 
طباعة
 القراءات :274  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 23 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الثاني: أديباً شاعراً وناثراً: 1997]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج