شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(19)
كان الفتى مع مطلع كلّ يوم بهي من أيام الطّفولة في البلدة الطّاهرة يخرج من دارهم في (السيح) يحمل في يده زنبيلاً كانوا يصنعونه من خوص النّخيل، يسير في شيء من البطء، فلقد خلق نحيلاً وسقيمًا، ينظر في وجوه النّاس الذين يحملون الطيبة في دواخلهم فتنعكس ضياء على أشكالهم ومظاهرهم، ويستفتحون يومهم بذكر الله والصلاة على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فيختمه الله لهم بالبركة والإحسان. هذا المصلّى، وذلك سوق الحبابة، وتلك المناخة وقد افترشت أرضها بأشجار السدر والأثل، وعمرت (المراكيز) بالمفاليح من الرجال شجاعة ونضارة وفصاحة.
يقصد مجلس والده، ينحني ويلثم يديه، وذلك ضرب من ضروب الأدب توارثته الأجيال من أبناء البلدة المباركة، يحدق في وجه أبيه، يهابه ويفتخر به، وخصوصًا عندما كان يسمع الكلمة من أفواه الأباعد قبل الأقارب "والنعم"، أو "أنعم بأهلك وأبيك".
يدسّ الوالد في يد الابن شيئًا من النّقود، يصغي لكلماته الموجزة (تمر على منزل إخوتك الكبار وتدفع لهم بهذه (المقضاة)، ويردف لا تنس أن تسلّم على خالتك عندما تدخل الدار). وتعلّم الفتى كيف يحترم ويجلّ المرأة التي كانت تحوطه وإخوته بالعطف والحنان، وإنّ حنانك وعطفك (يا أم علي) -رحمك الله- لا يقلّ عن حنان المرأة التي حملتني بين أحشائها وتعلمت على يديها ويديه -رحمه الله- ما كان زادًا للفتى طول مسيرته طفلاً وشابًا وكهلاً.
وتشاء القدرة الإلهيّة أن أنزح عن البلد الذي أحببت في مقتبل العمر، وكنت إذا ما أتيت إلى طيبة زائرًا، ودخلت على الوالدة -أطال الله بقاءها- مسلّمًا، كانت في شيء من الدّعة واللّطف تخاطبني قائلة: (الله يرضى عليك تطلع لخالتك وتسلّم عليها)، تطلب مني هذا ومن إخوتي حتى وإن قدمنا مساء! حتى وإن كنا قادمين من رحلة طويلة أو سفر شاق!!
إنني هنا لا أرسم صورة مثالية؛ فذلك هو الواقع الذي أنقله اليوم بعد رحيل الأم الكبرى، أسكنها الله فسيح جناته، وكانت الخالة -رحمها الله- تطلب من إخوتي أن يبرّوا المرأة الأخرى في حياتها. وسمعت أحد إخوتي يقول، والدمع ينسكب غزيرًا من جفنيه، قبل عقد من الزمن عندما توفي رب الأسرة رحمه الله: اليوم الوالدة خاطبتني تقول: (لقد عشت مع خالتك أربعين عامًا متجاورين.. ولم يجعل بيننا ما يفسد الودّ أو يعكر العشرة، اليوم أطلب منكم أن تبرّوا خالتكم أكثر مما كنتم تبرّونها عندما كان والدكم يعيش بين ظهرانيكم).
وسمعت يومًا -رحمها الله- اعتراض الأسرة على زواج أحد أبنائها فسمعتها تهتف أين فلان؟ لماذا تغصبونه؟، لقد تزوّج بشرع الله وكلّنا في المدينة أهل جوار.. تقول هذا (أم خلف) وهي من تضرب في ضرب القبيلة بسهم وافر، لقد انتفت العصبية من دور أهل الجوار عربًا كانوا أم غيرهم، حاضرة كانوا أم بادية..
هؤلاء يا صديقي لم يحصلوا على شهادات جامعية ولم تمنحهم المؤسسات درجات ماجستير ودكتوراه، ولكنّ الفطرة أعطتهم هذا الخلق الأصيل، ومنحتهم هذا الشعور الجميل، وأخالنا اليوم في أمسِّ الحاجة إليه، وغفر الله لقوم ينظرون إلى الحياة بهذه الرؤية الضيّقة ويقولون بألسنتهم ثمّ يفعلون شيئًا آخر غير عابئين بالعواقب ولا مبالين بالمفاسد التي تترتّب على الرؤية التمييزيّة والتي لا يرضاها دين أو عرف أو خلق، متناسين قول سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم: دعوها فإنّها منتنة.
لم يسمع النّاس من كلماتك الجميلة -يا والدة- وأنت في سكرات الموت إلا كلمات التهليل والاستغفار، ثم نظرت محدّقة في عالم الغيب لتقولي: "قولوا للعرب يسامحوني". والعرب هذه كلمة تعني كلّ من حولك.
لقد حثونا الترب عليك في الجوار الكريم، وكأننا اقتطعنا من نفوسنا ما غلا وكبر وعظم، وعدت إلى مسكن العائلة الواحدة، وأوصدت الأبواب لأذرف الدمع سخيًّا على الأم الأخرى في حياتنا، ولسيّدة كان يزيّنها الحياء، فلم ترفع الغطاء عن رأسها يومًا حتى وإن كانت أقرب النّاس إليها، وكانت تحدّثنا همسًا، وتحضننا حنانًا ودفئًا.
اليوم يا أمّاه يحتضنك تراب طاهر لطالما حنّت إليه أفئدة المؤمنين أخذًا بقول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: من استطاع منكم أن يموت بالمدينة فليفعل فإنّني أكون له شفيعًا يوم القيامة. فاللّهم إيمانًا كإيمان العجائز.
 
طباعة
 القراءات :297  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 22 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج