شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(18)
- يُخرج النّقود الزّهيدة من جيبه، ينادي كبقية الطُلاب على الرّجل الذي يقف خلف مقصف المدرسة، (حاج موسى) رجل من المجاورين كان يلمحه، والفتى إذا ما دخل المسجد لقراءة القرآن عصرًا حلقة الشيخ (أبوهلال) يلمحه جالسًا في دكّة الآغوات متعبّدًا أو ذاكرًا، يأتي دوره في زحمة الطُلاب وضجيجهم ويعطيه حاج موسى قطعة من (الشريك)، وبداخلها قطعة من الجبن الأبيض، يحاول بعض زملائه جرّه إلى شيء من الشغب الذي كان مراقب المدرسة (الشيخ السمان) يتعامل مع مثيريه بكثير من الشدّة، ولكن أنَّى لذلك الجسد النّحيل القدرة على الدّفاع عن نفسه، فضلاً عن مبادلة الآخرين بما يعتبرونه تحدّيًا أو تحرّشًا بهم.
- يعتقد في قرارة نفسه أنّه خُلق في هذه الحياة من دون أظافر، ولكن تعدّي الآخرين عليه جعله يختزن في أعماق نفسه مشاعر متضاربة هي الأقرب إلى الحزن والأسى، وكثيرًا ما رفع بصره إلى نجوم السّماء عندما كانت والدته تهيئ له فراش النّوم على السطح، وكثيرًا ما أحسّ بيد والدته الحانية وهي تتلمّس جبينه ورأسه المثقل بأسئلة الوجود وغاياته. فلقد كان يستيقظ فزعًا من نومه، وقد تفصّد جبينه عرقًا، وضاق الوجود في عينيه على اتّساع مداه، وأنَّى لنفس قد استغرقها مثل هذا الشُّعور أن يلذّ لها مطعم ومشرب، أو أن يحتويها ملاذ ومأوى، وكان إذا ما فزع ممّا يجده، وقد استغرق الكون في هدوئه وسكينته وصفائه بحث، على قلّة حيلته، عن (الماء) ليشربه .وهل يطفئ الماء وحده وَقْدة النّفس السَّؤول، واصطلاءها بما لا يقوى على تعليله من أسئلة تتتابع، وأحاسيس تتضارب؟! وإنّ آلام النّفس لأشدّ وأوقع أثرًا من آلام الجسد. وإنّه في كهولته لهو أكثر حيرة من أيّام خلت، وأزمنة تتابعت. ولعلّه يلوم ذاته لتلك الطيبة التي جُبل عليها فتجرّع بسببها الزمن الصّعب ضروبًا من الجحود والنّكران، وكان أشدّ ما يفزعه عند الآخرين هو ذلك الخُلق غير السويّ والمخاتل الذي جُبلت عليه نفوس البعض، وأنّهم ليخفونه أو يحجبونه تحت غشاء رقيق من تلك الابتسامات المتلوّنة كتلوّن أصحابها، وضروب أخرى من حركة العيون المتذبذبة نظراتها، والتي لا ترى هذا الكون إلاَّ كيف تتمكّن من مخاتلة الآخرين، ثم توجّه إليهم الطّعنات الحادة والأليمة من خلف ظهورهم، وإنها لتنام غفلة من ضميرها قريرة العين وكأنّها تصبّ بذلك الحقد المخيف الذي تبطّنها أقرب النّاس إليها، أو أكثرهم وفاء معها، وعلم بعد زمن أنّ مشاعر الحقد والضّغينة لا تتبطّن إلاَّ النُّفوس التي جُبلت على الدّنيء من الأفعال، وأنَّى لنفس تشفى من مثل هذا الدّاء الذي يحرق بلهيبه أجمل ما أودع الله في هذه الحياة من وفاء، وحبّ، ورقّة، وعطف، وجمال.
- يؤذّن المؤذّن لصلاة الظُّهر، تردّد وديان المدينة وجبالها صدى نداء الإيمان الذي ترفعه الأصوات النّدية، كم وقف النّاس أسفل المنارة (الرئيسيّة) خاشعين، متبتّلين، ومتأدّبين، كم ذكروا وهلّلوا واستغفروا..
وتلك الفطرة التي جَبَل الله عليها عباده، يستمطرون رحمته، ويسألونه عفوه، ويخشون عقابه، الإيمان هو الفطرة، ونقيضه شذوذ التفكير، وارتكاسة النّفس في لظى الشكّ وتداعياته الممضّة والمحرقة.
سكن في أعماق نفسه ذلك النّداء الخفي لعوالم الغيب، حيث النّقاء والطُّهر والجلال، وفي ذلك النّداء ألفى ما يخفّف عنه قلق النّفس ووحشتها، وما ينقلها من عوالم الخوف من المجهول إلى عوالم اليقين، حيث الفطرة التي اختارها البارئ لعباده فتنكّبت ببعضهم الدُّروب، وأسلموا نفوسهم لضروب من الكراهية والظُّلم والظَّلام، وكما أنّ الحبّ والحقد لا يجتمعان، فإنّ النّور والظّلام ضدّان، وكما يغسل الحبّ النُّفوس من كدورات الحياة، فإنّ النّور قادر -ولو بعد حين- على هزيمة الظّلام.
- يأتيه الإذن من مراقب المدرسة الذي يمسك بعصاه الغليظة، والتي يخشاها حتّى أولئك الذين يتوهّمون أنّهم الأشدّ والأقوى بين أقرانهم. من حركة العصا يدرك الطُلاب مَن الذين سوف يسمح لهم ذلك الأستاذ بالصلاة في المسجد، والآخرين الذين من الأسلم أن يبقوا بين جدران المدرسة ليصلّوا بداخلها.
- وكان من حظّ الفتى أنّ المراقب لم يمنعه يومًا من الخروج مع أذان الظُّهر، وأنّه ليفرح في أعماق نفسه بهذه المزية، يستقرّ به مقام الدكّة، حيث يجلس أغوات المسجد، وبعض الحفظة لكتاب الله.
- وتعلّق قلبه بذلك المكان، وكان يجد فيه سلوى لعلّة نفسه التي أعيته، وتركه الخلان يومًا، أو هجروه، وتفرّق جمعهم عنه، واحتضنه قلب (الزَّين)، وألفى بساطته ورقّته وسماحته ما خفّف عنه هجير الحياة، وقسوتها، وتقلّبها، ووجد وفاءه وعطفه ما جعله يشيح بوجهه عن قوم احترفوا الجحود والنّكران، وتفنّنوا في ضروب من فظاظة السُّلوك وقبحه.
- لقد فتح وفاء (الزَّين) له أبوابًا في الحياة كانت موصدة، وعلم بعد حين أنّ (الكنز) الذي كانت تروي تلك المرأة الطاعنة في السنِّ على ضوء النُّجوم في سطح المنزل، تروي وهي تمسك بـ"الإبرة والسيم" لتصنع "الكوافي" المطرّزة وتبيعها لتسدّد أُجرة ذلك المنزل القابع في صدر حوش (عميرة)، دون أن تمدّ يدها بالسُّؤال لأحد عزّة وكرامة.
- نعم.. لقد كانت الجدّة الوقور تروي غرائب القصص عن الكنز المطمور في قاع الأرض. لقد تيقّن الفتى أنّ الكنز الحقيقي هو ما جُبلت عليه النُّفوس السويّة من حبٍّ وتسامح ورأفة، حتّى إنّ نسماتها لتمتدّ أحيانًا لتشمل قلوبًا تغلي بداء المكر والخديعة.
- يا (زين).. يا من أطفأ وَلَه النّفس السَّؤول بإكسير الحبِّ الصّادق، يا مَن دثّر يومًا جسدًا ضامرًا برداء الرّحمة والشّفقة، يا مَن أصغى يومًا لآهات نفس سكنتها الهموم منذ أن قطعت الدرب بين (السيح) و(الشونة)، وحثّت الخُطى متلهّفة حائرة بين (التحسينية) و(الحارة).
- أتدري يا (زين) وقد آويت يا صديقي إلى الفراش بعد أن وهن عظمٌ منك وجسدٌ، ولم يوهن إحساس فيك وروح! أتدري يا (أبتاه) أنّ القلب قد عاودته آلام ما برح يشكو منها عند طلعة الفجر، وغروب الشمس، وإنّه ليحسّ بآلام الغربة، ووحشة الطّريق، وإنّه ليجد في الغروب ملاذًا وسكينة من هذا وسواه، فمتى تلوذ النّفس بـ(الربوة)، وتجد في عوالم الخلود والبقاء خلاصها من قيود كبّلتها، وأدمتها.
 
 
طباعة
 القراءات :298  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 21 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج