شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(13)
- ضاق منه الصّدر واحتبست أنفاسه، وارتعشت أطرافه خوفًا وفرقًا، ولكنّه عزم على أن يسلك الدّرب حتّى وإن أحسّ أنّ العيون ترقبه من بُعد، والنّاس يتهامسون في أحاديثهم عنه، وعندما بلغ أطراف سوق "الحبابة" تهادت إلى سمعه أصوات الباعة البسطاء من النّساء يجلسن في قلب السّوق؛ هنّ من سكّان "العوالي" و"قباء" و"قربان"، يحملن فوق رؤوسهن مع نداء كلّ فجر ما تجود به الأرض التي زرعها وسقى غرسها الآباء والأجداد، رائحة النّعناع "المديني" تتسلّل إلى نفوس المارّة فتنعشهم، ومحافل الورد والفلّ والياسمين تجذب القوم المتأدّبين في حديثهم مع الأمّهات اللاتي أبت عليهنّ مروءتهن مدّ يد السُّؤال للآخرين، واستعضن عن ذلك ببيع القليل ممّا يملكن.. ثمّ تعود قافلة المتعفّفات عن ذلّ السّؤال أدراجها مساءً؛ حيث السّاقية، ومنابع الماء، وخضرة الأرض، و"غناء القماري"، ليفترشن الأرض على ضوء القمر، تتلاحق أيدي الصّغار لتناول وجبة اليوم الواحدة، ترضي الأمّهات والجدّات و"الدّادات" بالقليل من الزّاد ليملأ الصّغار بطونهم من طعام ذلك الزّمن الطيِّب، ويكبر الصّغار وقد رضعن نسغ الحياة من لقمة العيش الحلال، فلا يرفعون صوتًا في وجه من ربّوهم من الآباء والأمّهات وسواهم، ويسعون لكسب الرّضا إذا ما اشتدّ منهم عود، واستقامت بهم حياة اليوم.
- يا صديقي.. نبت في الأرض من تطغى عليه نفسه، وتقوده طباع غير سويّة.. فيتخلّص ممّن حملته في جوفها، وغذّته بلبنها، ويتعالى على أب ضحّى بشبابه، وهجر مضجعه، وأوهن جسده بغية أن ينشئ هذه الفلذة، فينتشي فرحًا إذا ما رآه يسير في دروب الحياة أمامه..
اليوم -يا صديقي- يترك البعض ممّن تبلّدت أحاسيسهم، وجَفَت طباعهم، وقست قلوبهم؛ يتركون من ربّوهم وأطعموهم في الملاجئ ودور الرِّعاية، وتناسى هذا البعض أو غفل أنّ الحياة مليئة بما يمكن أن يكون عظة واعتبارًا ودرسًا، فمن غَدر غُدر به، ومن تكبّر، أو تجبّر سُلّط عليه من يذيقه طعم ما ارتكب من فظائع العقوق والنّكران والجحود.
- الزّمن شهر رمضان، وكلٌّ ينادي من الباعة في السّوق على بضاعته، يموج السّوق بالنّاس من جميع أطراف المحبوبة، تتزاحم المناكب في تلك "البقعة" التي تتفرّع منها عدّة مسالك، واحدة لسوق "العياشة"، والأخرى "للمناخة"، ثم واحدة لباب" المصري"، و”سويقة"..
ضاع جسده النّحيل بين تلك الجموع، وكانت عيناه ترتفعان إلى الأعلى، إنّه يبحث عن الرّحمة، ويتطلّع لنيل شيء من السّكينة والطّمأنينة، فلقد غابت عن حياته تلك المفردات، وظلّ تائهًا في دروب الحياة يفتّش عمّا افتقده يومًا وهو "يحبو" فوق أرض صلدة، فذاق من قسوتها ما ذاق، فكان سقم الطّفولة، وتكسّر أحلام النّشأة، وارتطامها بمركب الحياة، وتدافع أمواجه العنيفة..ثمّ وهن الكهولة، وجحود من منحهم- يومًا –ودّه وعطفه وثقته؛ فكانوا كالسّراب عندما يتراءى في صحراء العدم والتّيه والشّتات، وظلّ يبحث عن الغيث، ويرنو "لنوء" السّماء بعينين تائهتين.
- في "الحارة" وجد "الطّيبين" يفترشون الأرض، يغسلون نفوسهم بالذّكر؛ كما يغسلون ثيابهم ويفركونها بأيديهم عند منابع الماء، ويُطيّبون ألسنتهم بالدّعاء؛ كما يُطيّبون جدران دورهم الطّينيّة بالنّد والجاوي والعود، يأكلون العيش حافًا؛ ولكنّه معجون بالورع والتّقوى والصّلاح..
يتسلّلون ليلاً من منازلهم ليقفوا في "الفرش" يناجون مولاهم بألسنة لا تعرف الكذب، ونفوس تنزّهت عن الغشّ والضّغينة.
في الحارة عرف مجالس "الذّكر"، وأصاخ لصوت الشّادي مترنّمًا:
قُلْ للذي لامَنِي فيه وعنَّفَنِي
دَعْنِي وشأني وعُدْ عَنْ نُصْحِكَ السَّمِجِ
يا صَاحِبي وأنا البَرُّ الرَّؤُوفُ وقَدْ
بذلتُ نُصْحِي بذاكَ الحيِّ لا تَعُجِ
فيه خلعتُ عذاري واطَّرحتُ به
قَبُولَ نُسكي والمَقْبُولُ مِنْ حِجَجِي
وابْيَضَّ وجهُ غَرامِي في محبَّتِهِ
واسْوَدَّ وجهُ مَلامِي فيه بالحُجَجِ
تباركَ اللهُ ما أحْلى شَمَائِلَهُ
فكَمْ أمَاتَتْ وأحيَتْ فِيه مِنْ مُهَجِ
يهوى لذكرِ اسْمِهِ من لَحَّ فِي عَذَلٍ
سمعي وإنْ كان عذلي فيه لمْ يَلِجِ
تَراهُ إنْ غابَ عنِّي كلُّ جارحةٍ
في كُلِّ معنىً لطيفٍ رائقٍ بَهِجِ
في نغمةِ العودِ والنَّاي الرَّخيمِ إذا
تألَّفا بين ألحانٍ مِن الهَزَجِ
في مسارحِ غزلانِ الخمائلِ في
بَرْدِ الأصائلِ والإصْباحِ في البَلَجِ
وفي مساقطِ أنْواءِ الغَمامِ على
بساطِ نورٍ من الأزهارِ مُنْتَسِجِ
وفي مَسَاحِبِ أذْيالِ النَّسيمِ إذا
أهدى إليَّ سُحيرًا أطْيبَ الأرَجِ
لم أدْرِ ما غربةُ الأوطانِ وهو معي
وخاطري أين كُنّا غيرُ مُنْزَعِجِ
لِيَهْنَ رَكْبٌ سَرَوا ليلاً وأنْتَ بِهم
بسيرهِم في صباحٍ منكَ مُنْبَلِجِ
فليصنعِ الرّكبُ ما شاءَ بأنْفُسهم
همْ أهلُ بدرٍ فلا يخشونَ مِن حَرَجِ
انظُرْ إلى كبدٍ ذابت عليك جوًى
ومُقلةٍ من نجيعِ الدَّمعِ في لُجَجِ
وارحمْ تَعَثُرَ آمالي ومُرتجعي
إلى خداع تمنّي الوعدِ بالفرجِ
واعْطفْ على ذُلِّ أطْماعي بِهلْ وعَسَى
وامْنُنْ عليَّ بشرحِ الصَّدْرِ مِن حَرَجِ
أهْلاً بِما لم أكُنْ أهْلاً لموقِعِهِ
قوْلُ المُبشِّرِ بعدَ اليأسِ بالفَرَجِ
 
- اليوم -يا زين- اختفت ملامح الدّرب، وتلاشت دور كان ينبلج من بين رواشينها ضياء الفجر..
- اليوم يا زين غاض الماء في النّبع، وكان بالأمس متدفّقًا.. ترى من يبلّ ظمأ النّفوس الصّادية؟ من يسقيها من منابع الحبّ؟ من ينقّيها من جفوة غفلنا عنها حتّى تمدّدت في الأوردة والشّرايين؟ من يطهّرها من ضغينة تلبّست الأعماق وتوطّنت فيها؟ من يعيد إليها -يا رفيقي- عذريّة عفويتها وبساطتها؟.. لقد جاؤوا بليل فاغتالوا الحبّ وشنقوه وصلبوه على مفارق الطّرق، وإنّه ليصرخ ويستغيث، فالحياة بدون حبّ ونقاء وصفاء هلاك ودمار، كالنّهار من دون طلعة شمس، واللّيل من دون ضياء نجم وبدر، والأرض من دون خُضرة وغرس.
 
طباعة
 القراءات :280  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 16 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

جرح باتساع الوطن

[نصوص نثرية: 1993]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج