شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(12)
- سلك الفتى طريقه من مدرج العنبرية لا يدري أين يقصد ويتوجّه فلقد كانت (الحيرة) تكتنف نفسًا منه طُبعت على كلّ شيء من الحزن، والبحث عن المجهول أو الغامض من أسئلة الوجود.
هذا مسجد المصلّى يقصده أهل السّوق للصّلاة ثمّ يفتحون حوانيتهم يبحثون عن الخبز الحلال الذي يطعمون منه أبناءهم وهم قانعون بما كتب الله لهم من الرزق ولا يمدّون أبصارهم إلى ما أفاء الله به على الآخرين، كان أكثر ما يخشاه أولئك القوم الطيّبون أن يقطع أحدهم لقمة عيش أخيه، وكانوا لا يخشون في ذلك إلا الله، يرجون رحمته ويخافون عذابه.
- تراءى للفتى طيفه من بعد، هذا الرجل النّحيل الجسم، المُضيء الوجه. وكان الذكر يضيء وجوه أهل الجوار ويمنحهم رضًا وسكينة دائمتين، كان (الزَّين) يرفع صوته مناديًا تلك الجموع التي تدلف من باب (السلام) قاصدة درب (العينية) و(حلة المناخة)، إنّه يرفع صوته ليبحث هو الآخر عن لقمة العيش الحلال، واستقرّ صوت (الزَّين) في نفس الفتى وما يزال يتردّد نديًا في أعماقها السحيقة بعد مرور أكثر من أربعين عامًا، إنّه النّداء (أبو السمائح بيّاع ورايح)، ووقف الفتى خلف صاحب الصّوت، حتّى إذا ما جمع الزَّين بضعة دراهم أخذ يجمع ما تبقّى من بضاعة ذلك الزمن الطيّب، وكان الفتى مسكونًا بالخوف، نعم إنّه (المجهول) من أمر هذه الدنيا الآنية، والمضمر من حوادثها التي لا تزال تتوالى تاركة طفلاً بريئًا وهو في سنيِّ الكهولة، ساذجًا يغترّ بالابتسامات المتلوّنة والكلمات المنمّقة التي لا يتجاوز صدقها مدى اللِّسان.
- ولمح الزَّين في عين الفتى حزنه وفي يديه رعشتهما، وفي جسمه ضمورًا وأنّ داء النّفس السؤول والقلب الرّهيف وهو ما عزّ على طبِّ البشر واستحال برؤُه على مشرط الطبيب ومسكّنات الآلام.
- أمسك الزَّين بيد الفتى المرتعشة، وسلك به النّصف الأخير من درب حديقة العينية وكان الفتى يخفي وجهه في مصنف أبي السمائح، يخشى من أعين الناس الملتهبة وترعبه نظراتهم، ولم يكن الخوف والرّعب من النّاس بذواتهم ولكن المجهول من أمر هذه الدنيا هو الذي كان يرعب نفسًا برئت على شيء من الصّدق وطيبة النّفس إن لم تكن غفلتها الدائمة.
- هذا باب السلام.. وخلع كلّ منهما حذاءه ووضعه جانبًا وتقدّما للمثوى الطّاهر، سلّما على صاحب المقام الرّفيع، وسكب الفتى دموعًا حرّى، وامتدت يد الزَّين الحانية لتزيل حرارتها عن وجهٍ لم يعرف -آنذاك- من الحياة إلا أشكالها الظّاهرة، وصورها البادية للعيان.
- وظلّت يد الزَّين تلاحقه في دروب الحياة بدعائها الصادق والخارج من نفس لا تعرف إلا الصدق والوفاء، وظلّت دفقات الحبّ والعطف والحنان التي تلقّاها بين (العينية وحارة الآغوات) هي ملاذه بعد الله في كلّ مرّة تهجم فيها عليه نوائب الدّهر.
يا زين.. يا أبتاه أنت ترقد اليوم وحيدًا في دار رضيت فيها بالزّهد والقليل من متاع الدُّنيا؛ ولكن صنيع المعروف لن ينساك أبدًا، فلئن قصرّ بعضهم يا أبتاه ممّن نالهم الكثير من سخاء نفسك وجود يديك، فإن في الله خير عِوض عمّا بخلت به عليك بعض طبائع البشر التي نأت عن حفظ المعروف إلى ما سواه، ولئن كشّرت أنياب البعض في وجوهنا فلنا في وعد الله لعباده الصّابرين خير عاقبة وبشرى.
 
طباعة
 القراءات :292  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 15 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج