شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(11)
- كانت المسافة بين الدار في (السيح) على مشارف حي قباء، وبين المكان الذي تقع فيه المدرسة التي أراد الله للفتى بآخرة أن يتابع دراسته الابتدائية فيها، كانت مسافة طويلة، وإنّه -كبقية- أبناء ذلك الجيل يحمل كتبه وكراساته بين يديه، شظف العيش وقسوة الحياة صنعا المجد والذيوع للكثير في هذه الدنيا التي تتراوح فيها ضرورات الحياة بين الصّحة والمرض، واليسر والكفاف والفرح والحزن، والالتقاء والتفرّق، والصّعود والنزول.
* المسافة بين السيح؛ حيث يتدفّق في الشتاء سيل أبي جيدة من أعالي قربان حتى يبلغ شمال المدينة، المسافة بينه وبين دار العلوم الشرعيّة بالقرب من الحرم النبوي الشريف تكاد تصل إلى ثلاثة أرباع الساعة، يسلك الطريق من باب جديد، يمرّ (بالخالدية) ثمّ (بالشونة)، في أعالي الشونة يقع بناء منزل صغير يسكنه رجل وضيء الوجه من أهل الجوار، يمسك (بإبريق) في يديه ويتوضّأ منه، لقد قادهم الشّوق واستثار نوازع نفوسهم الحنين إلى دار الهجرة؛ وكأنّهم استلهموا تلك المشاعر الإيمانيّة من روح سلمان الفارسي وصهيب وعمّار وزيد بن حارثة؛ رضي الله عنهم.
يتوقّف الفتى برهة يتملّى تلك الصورة الإيمانيّة المضيئة، وعلى بعد خطوات في ذلك الطريق الضيّق الذي تتطاير منه ذرّات التراب المبارك، يقع فرن تديره امرأة اسمها (وحيدة)، امرأة في شجاعة الرّجال وفي صبرهم على قسوة الحياة وشدّتها.
وكانت الأمّهات يخبزن العيش مع مطلع كلّ صباح ثمّ يدفعن به إلى أحد الأبناء ليحمله على رأسه، ويقف في صفٍّ طويل أمام أقرب (فرن) أو (مخبز)، حتى إذا جاءت (نوبته) أنزله من فوق رأسه ودفع به إلى (الخباز) واضعًا في يديه بضعة قروش أو هللات ثمنًا (لتطييب العيش)، ثمّ يحمله إلى الدار ثانية لتقابله (الأم) بحنانها، تمسح على وجهه ورأسه ثمّ تتمتم بكلمات هي الدّعاء للابن بأن يوفّقه ويرعاه.
- نساء الأمس الأكثر صبرًا والأنقى قلبًا والأصفى سريرة، وأبناء الأمس الأكثر بحثًا عن الرضا، والأشد خجلاً والأعظم أدبًا في حضرة الوالدين وكبار السن من (الجيران) وأصدقاء الآباء والأجداد.
- يسلمه درب (الشونة) إلى سقيفة (رصاص) حوانيت (الصوغ) كما نطلق عليهم في القاموس المدني، أو لهجتهم المتسمة بالرقّة والدعة، حوانيتهم منظّمة تعرض مصنوعات الفضّة من (خواتم) وسواها، و(سبل) الماء التي تزوّد المسجد النّبوي بالماء البارد، كان الشباب يكدحون لمساعدة أسرهم، يحملون (الدوارق) من (السقيفة أو من حارة الآغوات) إلى الصناديق التي ترصّ فيها تلك الدوارق والتي كانت تنتشر بين سواري المسجد، يمرّ الفتى من الجهة الجنوبيّة للمسجد، يتطلّع إلى الأعلى؛ ذلك منظر القبة الخضراء حيث تهفو أرواح المؤمنين الصادقين لرؤيتها، لقد سكن حبّ المُصطفى صلّى الله عليه وسلّم قلوبهم فهم المتأدّبون في حضرته خفضًا للصّوت، وانكسارًا للذّات، واستحضارًا لتلك السيرة العطرة التي عرف بها سيّد البشر صلّى الله عليه وسلّم وكان قوامه الحبّ والرّحمة والتسامح. وما أحوج بعضنا لاستحضار تلك الصور المشرقة من حياته وكفاحه وسلوكه العظيم، حتّى إنّه صلّى الله عليه وسلّم فتح القلوب والأسماع بذلك الحبّ الذي أودعه في ذاته الطّاهرة والشريفة.
- عند باب المدرسة يلهو الصِّغار، يتذكّر الفتى (مصروفه اليومي) لا تسعفه الذاكرة هل هو ربع ريال أم نصف ريال أم أقلّ من الاثنين، يدخل المدرسة؛ ويأخذ مكانه في الصف فهو لا يميل إلى ما يميل إليه أنداده من ضروب هذا اللّهو، ولربّما خجل من مجاراة أقرانه؛ فهو ضعيف البِنية؛ ولا يقوى على الدفاع عن نفسه، وإنّه في كهولته ليس أحسن حالاً في مواجهة من جحدوا مودّته، ومزّقوا أواصر المحبّة، ورموا بها عن نفسه التي توّهمتهم خلانًا فإذا هم أعداء أنفسهم قبل أن يصنعوا العداء في دروب الحياة متناسين أنّ الحياة دَيْن وقضاء، وأنّ من يصنعون الحبّ لا يضيرهم شيء من ذلك العلوِّ والاستكبار والمغالاة فيهما.
 
طباعة
 القراءات :286  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 14 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج