شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(10)
- يأتيني الصّوت -نائيًا عن الدّيار، وبعيدًا عن الأحباب- هاتفًا: صدِّيق باناجة مات وقضى، ولم أدرِ والعين تذرف الدمع سخيًا.. هل أرثيه؟ أو أرثي جيلاً عرفته، وأمكنة ألفتها، وديارًا تعلّقتُ بها.. بين الحارة، وباب السّلام، وباب المجيدي؟
- بموت صدِّيق تنطفئ شمعة كانت تُضيء في دروب الحياة، ويوقف القدر نبضات قلب كان مليئًا بحبّ الآخرين، وبسلوكه، وأدبه الرّفيع الذي تربّى عليه كبقية أسرته، والذي صنع له مكانة عند الجميع، إنّه من جيل جمع بين مناقب الرّجولة مع حياء شديد لا يمكن للعين أن تخطئه، وشهامة قلَّ نظيرها بين الأنداد.. عرفته قبل أربعة عقود من الزّمن أو أكثر، حيث تمتلئ حارة الآغوات بالشّباب في شهر رمضان، يحملون بين أيديهم (شكَّات) دوارق المياه من سبيل (عم مالاه)، و(الأفندي)، وحسن الشريف، والمنادي والمقيم، يسلكون الطّريق بين الحارة و(باب جبريل) في تؤدة، لا يرفعون أعينهم حتّى وإن كانت المشربيات، ورواشين الدور مفتوحة.. أدبًا مع الجار، وحرصًا على كرامة أهله، يفتخر جيل الأمس الذي تربّى على العصاميّة، وأدرك شظف العيش، وقلّة ذات اليد -أحيانًا- أنّنا لم نعرف التسكّع المرتبط بغياب الضّمير والخلق الذي يعرفه البعض من جيل اليوم. فلقد صاغ التراث المدني وتقاليده المتجذّرة في أرض النبوّة والقداسات؛ لقد صاغ نفوس شباب الأمس، وكهول اليوم على تلك الشمائل الرّفيعة، التي ترى في بيت الجيران أهلاً وقرابة، لقد اختلطت الأعراق في المدينة، وتألّفت النُّفوس التي أُترعت بحبّ المُصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فكان الانتساب إلى الجوار الكريم هو النّسب والحسب، فانتفت عن النّاس عصبيّة الجاهلية، جاء الإسلام ليجتثها من نفوس تابعيه، ولكأنَّ البعض قد غفل عن ذلك، فلجأ إلى ما وصفه الصّادق المصدوق من سلوكيات بأنّها (نتنة)! لقد نسي هذا البعض، أو تناسى أنّ الحبيب صلّى الله عليه وسلّم لم يغفر للصّحابي الجليل أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- كلمته في حقّ سيّدنا بلال-رضي الله عنه- فخاطبه سيّدي وقرّة عيني عليه صلوات الله وسلامه بالقول الفصل: إنّك امرؤ فيك جاهليّة، فارتمى سيّدنا أبوذر أرضًا، ليطلب من بلال أن يضع قدمه فوق صفحة وجهه.. ذلك يا رفيقي أسلوب تأديب النّاس، ومنهج قتل نوازع الشرّ والأثرة، ولكنّ بلالاً أخذ بيد أبي ذر فرفعه، ولهذا تسامت مدرسة النبوّة الصّادقة عن ضروب الجاهليّة المقيتة، فرفعهم خالق الكون بحيث كانوا سادة عصرهم وزمنهم.
- كان صدِّيق يتردّد على الحارة، وإذا قدم إلى مناسبة زفاف تحمله شهامته لأن يجلس في الموضع الذي يقوم فيه على خدمة الآخرين، وكان قليل الكلام، وطبعت حياته بالجدّ والبحث عن لقمة العيش. كان هو و(كشلَّه) زميليَّ في الدراسة، المرحوم الدكتور أحمد عيسى فلاتة، الأقرب إلى النّفس، والأكثر رصانة ووقارًا بين جيل تناثر في الشتات، وتفرّقت به دروب الحياة المتعدّدة ونوازعها المثيرة، ولكن بقي درب الحارة يسكن نفوسنا بعد أن تداعى البنيان، واختفت ملامح الأمس الجميل في (الرُّستمية)، وفي برحة (مقهى المعلم طيفور) في (ديار العشرة) في (الصُفّة)، حيث الوجوه النّضرة، والألسنة الذاكرة، والأرواح المحلّقة في عوالم الملكوت.
- نعم.. قبل حوالي أربعين عامًا في باب التمار، دعاني الصديق معاذ بن عثمان إلى مناسبة زفاف، كان صدِّيقاً يمتلئ حيوية ونشاطًا، ولكن ذلك كلّه لم يحمله يومًا على التعدّي على أحد. فلقد كان العقل والحكمة هما ما يميزان الكبار عن سواهم، (يومها) رأى المرحوم صدّيق الجيل الصّاعد، وكأنّه يريد أن يثير غبار معركة، ما أغنى مناسبات الفرح والسرور عنها، لم يصغوا إلى صوته وحكمته ورجاحة عقله، فانسلّ بين الصّفوف، وترك الحلقة خلفه.. فلقد أدرك أنّ الزمن تغيّر، وحملته كرامته، وعزّة نفسه أن يوصد الأبواب خلفه، ويكتفي بفريضة يؤدّيها بالقرب من المثوى الطّاهر، وتداعت إلى مسمعي أنباء مرضه، قالوا: لقد تداعى ذلك الكيان الممتلئ حيوية ونضارة، وبالأمس القريب حملوه للبقيع يدفنونه في (الربوة) ويدعون له بالرحمة في (الروضة). رحم الله الإنسان (صدَّيق باناجة)، وعزائي للأهل والأقارب والجماعة.
 
طباعة
 القراءات :304  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 13 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.