شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(6)
وصل إلى بلدته بعد طول اغتراب، أغراه الماضي البعيد أن يسير على قدميه من منزلهم في "قباء" إلى قلب المدينة الطاهرة، لمحه والده الذي كان حريصًا دومًا على سؤاله عن وجهته، كان في مطلع عمره يتبرّم من مثل هذه الأسئلة التي يعلم أن باعثها هو حرص الوالدين في الزمن الماضي على سلوك أبنائهم، ففي هذه المرة طلب منه والده الذي أثقلته سنون العمر أن يمر في طريقه على منزل أحد أصدقائه ويبلغه سلامه وسؤاله. وسلك الفتى الطريق من "غدير الزعبلاوي" إلى "الكاتبية"، التي يقوم فيها مسجد أثري تتناقل الناس حكايات مثيرة عن مقبرة تقع بجواره. تتلاصق الدور في حيّ الكاتبية كبقية البيوت في أزقة المدينة المنورة وأحوشتها المتعددة، في طريقه تذكّر بعض أسماء حواش أخرى عرفها في طفولته بذلك الحي الذي تسلكه قوافل الحجيج عند دخولها من باب العنبرية، أسماء من مثل: حوش سنان، وحوش مرقة، وأبوجنب، والسلطان.
وصل إلى دار صديق والده التي تختلف في بنائها عن بقية البيوت الأخرى، ولم تكن هناك حاجة لطرق الباب والاستئذان، فالدار دومًا تستقبل قاصديها وتحتفي بهم. دخل إلى البهو الكبير، لمحه صاحب الدار المتميزة في كل شيء، وكان حفيًّا به، بلّغه سلام والده، وأدرك الفتى أن وقت صلاة الظهر قد اقترب وهو يريد أن يستمتع بالأصوات الندية المنطلقة من منائر المسجد، فاستأذن من الرجل الذي تعوّد أن يودّع زائريه إلى خارج الدار، تقليد عرفه أهل البلدة الطاهرة في الزمن الغابر. كانت الشمس ترسل أشعتها الشديدة والحارقة التي تعوّد الناس على تحمّلها. انتصبت أمامه منارة مسجد الغمامة، اقترب في خطوته من آثار تلك الأماكن الحميمة التي عرفها في طفولته ونشأته الأولى، وتساءل أين ذهب سوق الحبّابة، وباب المصري، وسويقة، والعينية، وجاءته الإجابة سريعة من الأعماق السحيقة للنفس: لقد ذهبت يا بنيّ ضريبة للتطوّر الذي شهدته البلدة بعد قرون عديدة ظلت فيها شامخة أمام عوامل الإزاحة والفناء، ولكن لكل شيء أجل وكتاب. دخل من باب جبريل الذي كان مواجهًا لحارة الآغوات، اقترب من الصُفّة، لم يبقَ فيها من أغوات المسجد إلا القلّة. تذكّر جاه الله وعطية الله والزين وضو البيت وبلال، اقترب من أحدهم وسأله عن تلك الوجوه السمراء والمضيئة، أخبره محمّد أول أن أسياده انتقلوا إلى جنّة البقيع، أحسّ وهو يؤدي الصلاة برعشة في جسده، حاول إخفاء ذلك عن الآخرين الذين كانوا يقفون معه في الصف، أحس بعد انقضاء الصلاة بدقات قلبه تتسارع، وكان جبينه ينزف عرقًا، وأعينه تتسع حدقات. تذكّر الزين، تُرى أين هو الآن؟
خرج مسرعًا من الباب الذي ولج منه إلى المسجد، توجّه بخطوات لاهثة إلى باب العوالي، ندّت منه التفاتة إلى البقيع، تذكّر كيف كان منظر الجنائز وهي تخرج مع مشيعيها من حارة الآغوات بعد الصلاة عليها في المسجد، وكيف كان ذلك المشهد يبعث في نفسه رعبًا من نهاية الحياة. وصل بعد جهد إلى دار الزين، طرق الباب، عرفته سيدة الدار، نزلت إليه مسرعة، لم يكن غريبًا عنها فهي في منزلة والدته، إنها الحاجة مسعودة، تأمّلت وجهه، ثم تساءلت: بنيّ ما هذا "السواد" الذي يحيط بعينيك؟ لقد زاد اضطرابه، وسألها في شيء من التلعثم: أين والدي الزين؟ أجابته: لقد ذهب إلى السوق لقضاء حاجة ثم يعود. توسّلت إليه أن يصعد درج المنزل ويستريح في الدور العلوي من الدار المتواضعة في كل شيء تواضع أصحابها، تذكّر أنه ناله شيء كثير من حنان هذه المرأة في صغره، وخصوصًا عندما كانت تعاوده الآلام التي لا يعرف سببها، ولا يقدر على وصفها، بل كل ما يتذكره هو ذلك الخوف الذي كان ينتابه عند صوت الرعد عندما تمطر السماء ويشعر به مع حلول الظلام، فتطلب منه والدته أن يدخل إلى المجلس "الجواني" لينام حتى يذهب في الصباح الباكر إلى الكُتّاب، ثم إلى المدرسة لاحقًا.
استأذن من مربيته مسعودة وغادر في وجل الحي الذي يسكنه الزين، كان يتلفّت في كل اتجاه لعله يلمح صديقه الذي كان يشعر في كل مراحل حياته الملأى بالمتاعب أنه القلب الوحيد الذي يحتوي آلام نفسه، لقد وجد فيه دومًا الملاذ. كان الزين الوحيد الذي يشاركه آلامه عندما هجره الأقربون، لقد راهنوا على نهايته، فكانوا لا يتورّعون عن ارتكاب أيّ حماقة للتخلّص منه، وكان في كل الأحوال التي يناله الأذى منهم يشعر أن الله معه، وأن الألطاف الربانية تحوطه بعنايتها.
سلك الطريق الذي يشق حيّ بني علي، تذكّر كيف كانت البهائم تشق هذا الطريق حاملة "البقعة" من البساتين المنتشرة في قربان والعوالي لتذهب بها إلى السوق، وليسرع الناس إلى شراء ما تحتويه "أخراجها" من رطب وعنب وتين، وصل إلى السوق الجديد، الذي أقاموه مكان "الخان" الذي كان يقصده الناس لشراء ما يحتاجونه من اللحوم والخضروات. كان يشعر أن أهل الخان في الماضي على اختلاف سحناتهم وأعراقهم ومشاربهم كانوا متقاربين، واليوم أصاب القوم الكثير من الجفاء والتباعد؛ بل والتنافر. تلك يا صديقي النهاية الأليمة "للأدلجة"؛ فهي تنطلق من سوء الظن، وتنتهي عند الشعور بالفوقية، وتتوهّم أن خلاص الإنسان لا يتم إلا على يديها وبمباركتها.
وصل إلى داخل حي قباء، كان مسرعًا في خطواته، وكان يشعر في داخله بأن أقدامه لا تقوى على حمله، وأن قلبه الموهن يرفّ مثل جناحي حمامة تلاحقها بندقية صيّاد. يحاول جاهدًا أن يجد طريقه بين تلك السيارات المنطلقة في اتجاهات عدة. كان يشعر أن كل الأعين ترقب حالته، كان يبحث عن الملجأ، المسافة لم تعد طويلة بينه وبين الدار، ولكنه في تلك اللحظات كان يشعر في أعماقه المضطربة بأنها آلاف الأميال، تذكّر طفلته الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها شهورًا، رفع عينيه إلى أعلى، كانت روحه المتعلّقة بعوالم الملكوت تسبّح في صمت، فلقد عجز لسانه عن النطق كما هو الحال في كل مرة يشعر فيها أن الخيط يضحى رقيقًا جدًّا بين عالم للفناء وآخر للخلود والبقاء، فتتدخل العناية الإلهية لتنقذه من مواجعه، من قلقه، ومن وحشة النفس التي جبلت على شيء من الدعة والرقة.
كان يمنّي النفس برؤية ابنته؛ فلقد بات يشعر بأنه يقف على حافة الهاوية، وعندما اقترب من الدار تذكّر أن والده يقتعد مجلسه في أسفل الدار، لأوّل مرة يراه والده وهو على هذه الحالة من الخوف والقلق. وساد الصمت بين الأب والابن، ورفع الرجل الذي كان يهابه كل من في الدار وخارجها، رفع يديه إلى السماء، وتمتم بكلمات، وقال له: سلامات يا بني، ما الذي جرى لك؟ وكان ردّ الابن: أكثِر من الدعاء لي يا أبتاه. فكان الرضا هو الدواء لمواجعه.
اليوم يا صديقي أتذكّر كيف قطعت الدرب في فيافي الحياة المجهولة، والتي لم تطرقها أقدام من قبل، وكم تلظّى الجسد بين هجير قائظ، وريح عاصف، ونفوس جبلت على القسوة وامتلأت برائحة الحقد النتنة، ترى متى تمطر السماء، ومتى يحل الغيث فيغسل تلك النفوس المتسخة، ولتنبت الأرض ثمار الحب والصفاء، ولتمر سحائب الرحمة لتسقي أجداث القوم الذين جبلت نفوسهم على الحب فنثروه على الآخرين، وتركوا بعد رحيلهم تلك الصور الجميلة، فعاش الفتى يتخيلهم مع إشراقة كل يوم، وإنه في كل مرة توصد الحياة أبوابها يشعر في أعماقه أن مفاتيح الحب والصفاء والدعاء قادرة على أن تشرعها من جديد، فالنفوس السويّة لا يتبطّنها إلا الحب؛ فهي بإكسيره في الكون تحيا، ومن أجله في دنيا الفناء تعيش.
 
طباعة
 القراءات :292  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

وحي الصحراء

[صفحة من الأدب العصري في الحجاز: 1983]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج