شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(5)
يجد نفسه مساء كلّ يوم مندفعًا مع الجموع إلى درب العينية، وتقف قدماه عند مبسط الزَّين الذي أضحى احتفاؤه بالفتى يتزايد، توجّه إليه بأسى ذات يوم قائلاً: ليس لدي ابن فأنت ابني، ووجد عنده من العطف ما هو بحاجة إليه في سنيِّ الفتى الذي ولد ضعيفًا أو مستضعفًا، وتضطره أحوال تعتريه وضيق يأخذ بتلابيب نفسه ويلتفّ عليه كما تلتفّ الأفعى على فريستها، يضطره ذلك وسواه أن يسافر إلى خارج بلدته؛ ولكنّه يعود كما خرج. وأضحى بيت الزين ملاذًا له من هجير الحياة وقسوة بعض ذوي القربى، وكان يقول للذين يرصدون تحرّكه من منزله إلى حيث يقيم الزَّين: اتركوني وصاحبي فإنّني لأجد بين ثنايا نفسه من البساطة والحبّ والصّدق والعفويّة ما أنا بحاجة إليه؛ ولكن من الذي يقدر على إسكات ألسنة العذّال أو دفعهم عن طريق حياته.
عند الرستمية يقفان.. ينبّهه الزَّين: انظر إلى هذا الرجل يدعونه بـ(فرنسا).
مهاجر من الجزائر يبحث عن لقمة العيش في الحارة، ويتجمّع حوله البعض فلا يتركونه هو الآخر وشأنه، ويسأله أحدهم كم عندك يا فرنسا من الجنيهات، يخرج الرّجل الذي يعتمر طاقية مصنوعة من الصّوف (تحويشة) العمر من جيبه ويضعها في يده المرفوعة للسّماء ليثبت لهم أنّه يملك مالاً حتّى وإن كان زهيدًا فيتحرّك أحدهم من الخلف ويضرب على يد الرّجل الطيّب القلب والنقي السّريرة فتتطاير النّقود فتتخطفها الأيدي ويثور فرنسا ويتحرّك في كلّ اتجاه وعندما لا يجد نصيرًا يتوجّه بالدّعاء؛ ثمّ يلوذ بالمكان المتواضع الذي اتّخذه سكنًا له خارج الرستمية؛ ولكنّه لا ييأس من مثل هذه السلوكيات الظالمة، فيبدأ رحلته مع مطلع كلّ يوم للبحث عن لقمة العيش، يجرّ عربة صغيرة ليحمل الحصاة التي يستخدمها بعض من يقومون بتعمير الدور الملاصقة والمترابطة في ذلك الحي العتيق، ومع مغرب كلّ يوم يدسّ معلّم الصّنعة ذلك المقسوم من القروش في جيبه ليشتري كسرة خبز يغمسها في سعادة بحبّات الفول المصنوع في جرة المعلّم (فرغلي).
في مكان ناءٍ وبعد عقود من سنين العمر -اللّهم اجعل ما تبقّى منه في رضاك يا كريم- وقف الفتى في الزاوية؛ رأى رجلاً شبيهًا بـ(فرنسا) في لباسه المتواضع في حركاته الغريبة على النّاس ويزيد عليه بأنّه يضع على (جلابيته) نياشين اصطناعيّة، ولا تمرّ حافلة بالقرب منه إلا وأمطرها بالدّعاء (الله يجعل طريقكم السّلامة)، وقف الفتى؛ ثمّ التفت إلى رفيقه ليقول ودمع غزير يفيض من عين جبلت على فلسفة الأشياء برؤية أخرى، هل تريد أن تعرف من هو السّعيد في هذه الدنيا؟ لم يرد المهدي بأيّ شيء، واسترسل الفتى في كلامه:
هؤلاء هم السُّعداء حقًّا، إنّهم من صفت منهم النُّفوس، وذاقوا طعم الإيمان الفطري بالقدر، بلقمة العيش، بالمستقبل.
تذكّر كامل وهو يجوب دروب المدينة والرشيدي وهو لا ينطق إلا بكلمة واحدة مقضية وجدتي الحنون سعدية وهي تهتف بالدّعاء، وتحرّك يدين مرتعشتين.
 
طباعة
 القراءات :281  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 8 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج