شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
(3)
- الأيّام أيّام العيد، أبناء الحارة أنهوا مع صلاة (المشهد) عملهم في (السُبل) وحمل الدوارق من الحارة وتهيئتها في الأماكن المخصّصة لها بين أساطين المسجد ورواقه وحصوته، والكبار من الرفاق قرروا -بعد سنين طويلة- أن يفرحوا في أيّام العيد، وأن يلهوا لهوًا بريئًا افتقدناه أو ضيّعناه اليوم مع أنّ في ديننا فسحة، وفي تراثنا شواهد وأدلّة تحذّر النُّفوس من أن تملّ، فإذا كَلَّت عميت.
- صديقه (ابن جبل) همس في أذنه بعد صلاة العشاء في باب جبريل وحدّثه بلغة يفهمها لطول مخالطته للقوم (اللّيلة عيالنا يحوطون اللّعب في برحة البقيع، على مفترق الطريق للصيران) وأضاف: (أبو قدور) وجماعتنا من أبناء الرباط سوف يكونون في الصف.
- كان الصفّ طويلاً كقامات من يقفون فيه، وصوت جهوري عرف صاحبه يتنقّل بين الصفوف في رشاقة وهو يردد (جينا نشوف الحبايب)، (زومال) يدلّ على الألفة والمحبّة، والمفاليح من (المناخة) وباب (العوالي) ومن أجياد مكة، و (علوي جدة) كانوا مشاركين في لعب أهل الساحة وباب المجيدي.
- كان الكبار في كلّ شيء من أمثال (أبو سطوة) والرفقا، وعبده قهوجي و(الباناجة)، و(عدلي)، ورجال من مكّة منهم القادم من (جيادها) مثل (سمر الدين) ورجل العلوي ونزيل المدينة (جميل عبده) وأفذاذ من رجال المناخة مثل قاسم مراد، والبلاجي، ومن باب العوالي رجل عرفه بهدوئه في السوق، هو عبدالمطلوب.. كانوا مثل ما ردّد (الزومال) (حبايب)، وسمع فالح القوم (البرناوي) يقول لأحدهم: اللّعب اللّيلة لا يكون إلا (للنظاف)، كلمة لها مدلولها وعبارة توحي في ذلك الزمن الجميل بأنّ الكبير كما قالوا هو صاحب القول الفصل في كلّ شيء، وعندما افتقد اللّعب أصوله ولاذ (المفاليح) بدورهم يتلمّظون الذكريات في (المائدة) و(السكة) و(القلعة) و(مصر ومصير) عندما جاء (الأشايب) وحولوا بنزقهم وطيشهم (الزومال) وما يرتبط به من نظام، من (جينا نشوف الحبايب) إلى (سيل الدم ولا تندم)؛ هربت الفرحة من النفوس، وغاضت الابتسامة من الشفاه، وبقي (الفتات) فالتقطته الأيدي الدخيلة على هذا الفن الضارب في أعماق التاريخ، منذ أن كان الأحباش يلعبون برماحهم في ساحة المسجد، وكانت العبارة النبويّة البليغة (اليوم يوم عيد) دليلاً على الفسحة في هذا الدين الذي شوّهه أصحاب القبضة الشديدة فكان أيضًا سفك الدماء البريئة.
- اليوم.. يا صديقي.. لم نعد نسمع صوت طلقات (المدفع) من صخرات (سلع) كما كانت أسماعنا تلتقطها في قباء والعنبرية والتاجوري، وتصيخ معها لصوت (النعمان ) و(البخاري) و(الديولي) شجيًا يحرّك النُّفوس ونديًا يستدر الدمع، وصادقًا يدفع بالناس جماعات إلى ساحة باب السّلام وموئل الرحمة.
- اليوم.. يا صديقي لم تعد أبواب الحوانيت في (سويقة) مشرعة في ليالٍ هي في صفائها كصفاء القوم الذين كانوا يستفتحون بالذكر والصّلاة على صاحب الجوار صلى الله عليه وسلم، ويغادرون والرضا بالمقسوم هو مشربهم، فلقد تعمّق الإيمان والتوحيد حقيقة منهم النُّفوس والجوارح فهم المتبعون حقًّا، والمعترضون هم من غلب عليهم الوهم فظنّوا أنّهم وحدهم أرباب الصّراط وما سواهم متنكّب عنه أو محيد.
- اليوم.. يا صديقي يغيب عن عينيَّ مرأى الشباب الكادح وهم يحملون في زهو (دوارق الماء) من دروب الصّالحين في (الحارة) إلى روضة غراسها صلاة وذكر وتهليل، تفرّقوا في الأرض.. بعضهم ضمّته الربوة في بقيع المؤمنين والأخيار، وبعضهم نزح عن الأرض التي أحبَّ، يا سيّدي متى ينتهي هذا السفر من التطواف والبعاد والتيه؟ أحدّث النفس أقول (بكرة) أعود (بكرة) ويأتي (بكرة) وبعد (بكرة) ولا أزال في البعاد قصيًا، يا خير من يأخذ بأيدي العباد، خذ بيدي وسلّكني الدرب والطريق، واسقني عذوبة ماء المحبّة الذي سقيته لقوم اصطفيتهم، ولأحباب برح بهم الشوق، ولم يطفئ لهيب تلك الأشواق إلا قرب الأرواح ودنوِّ النُّفوس.
- يا صديقي.. ومن يكتب حروف أهل (التيه)؟ ومن يسطّر سِفر من استضعفهم الآخرون؟! تُرى من (يعتقهم) وهم الأحرار؟ ومن يرفع السياط عن أجسادهم المتآكلة؟ من يدنيهم من نبع الماء ومن يدين قويتين ينزح لهم (ماء الحياة) من قاع الجب؟ تُرى من يقدّم لهم كؤوس الخلاص في يوم قائظ وليل بهيم، وصبح طالت طلعته، وشروق امتدّ حتّى زمن الغروب؟!
- خرج النّاس مسرعين بعد صلاة الفجر، تفرّس الفتى في وجوه القوم، لمحه بوضاءة وجهه من على بعدٍ، هذا هو الإنسان الذي كان يتعمم بـ(الغباني)، ويضع حزامًا رقيقًا في وسطه، كان يتحرك في (الحلقة) على رغم تقدّم سِنّه في خفّة ورشاقة مع صديقه (الرنقا)، اقترب منه فقد كان النزيل مستغرقًا في الذكر، ابتسم في وجه الفتى الذي أرخى ركبتيه في أدب على أديم الحصوة -يعرفه من قبل- صديقًا لرجلين كريمين من أهل المدينة أحمد عسيلان وحسين شويل -رحمهم الله جميعًا-، قال الفتى رأيتك البارحة في الحلقة مع القوم بالقرب من (الصيران)! تبسّم الرجل واكتفى بالقول: نحن دائمًا نلتقي في الحصوة.
- العم جميل عبده من وجوه القوم في العلوي، عاش في المدينة وديعًا هادئًا، ورحل بعيدًا عنها.. ولكنّ روحه لم تغب عن فضاء الروح والإيمان.
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
طباعة
 القراءات :465  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 107
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

وحي الصحراء

[صفحة من الأدب العصري في الحجاز: 1983]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج