(( كلمة المحتفى به سعادة الدكتور محمد لطفي الصباغ ))
|
- بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه، أتقدم بالشكر الوافر لصاحب هذه الدار الأستاذ عبد المقصود على تكرّمه بإقامة هذا الحفل الكبير، أشكره على حسن ظنه بشخصي الضعيف وأشكره على تكريمه العلم بتكريم من يظن بهم أنهم من العلماء، وأسأل الله أن يثيبه وأن يكافئه، وإني لأشكر أخي وصديقي معالي الأستاذ الدكتور محمد أحمد الرشيد الذي أكرمني وأكرم هذه الندوة الكريمة بحضوره الكريم، أيها السادة ليس لدي ما أقوله عن نفسي لأن إخواني ألبسوني ثوباً فضفاضاً جداً لا يمكن أن يأتي علي بحالة من الأحوال، ليس لدي ما أقوله عن نفسي لأني لا أعدو أن أكون طالب علم صغير، وإن أتيح لي أن أتعرف إلى عدد من العلماء الأعلام وأن أعاشرهم وأصحبهم منذ نعومة أظفاري وأن أعرف من يمكن أن يسمى عالماً، فمكنني هذا من الحكم على نفسي دون تواضع أني طالب علم صغير وإن كنت قد تقدمت في السن وبلغت من الكبر هذه الظاهرة التي ترونها، فأين أنا من ذلك المستوى الرفيع الذي يتبوأه العلماء. |
إذا كان بعض العلماء الكبار يعترفون بتقصيرهم وقلة علمهم فما قول هذا العاجز الذي يقف أمامكم!! ذكر الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللغات في ترجمة الإمام أبي علي القاضي الحسين بن محمد المورسي أن رجلاً أتاه فقال: حلفت بالطلاق أنه ليس أحد في الفقه والعلم مثلك، فأطرق رأسه ساعة وبكى ثم قال هكذا يفعل موت الرجال، والقاضي الحسين كان من أعظم فقهاء الشافعية ومهذب مذهبها، ويقول الله تبارك وتعالى وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً، إن كل ما أوتيه العلماء في كل العصور وفي كل الأمم قليل، فكيف بمن كان في أول الطريق؟ وإني لأقـول عـادة في مطلع الدروس التي أقيمها في المسجد اللهم علّمنا ما ينفعنا، وأنفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ولا تجعل علمنا حجة علينا بين يديك يا أرحم الراحمين. |
يا أيها السادة لقد بذلت جهدي في تحصيل العلم، لم أقصر في ذلك، والحمد لله على توفيقه، فما كان عندي من علم قليل أذعته وبلغته، عملاً بقول الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه، (بلغوا عني ولو آية) وقوله: (نضَّر الله وجه من سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه، فرب مُبلَّغ أوعى من سامع).. وقد شجعني أساتذتي على الخطابة منذ أن كنت فتى، فتشجعت وأنا أعرف قدر نفسي لها، ومما أعتز به أن أستاذي علامة الشام الشيخ محمد بهجت البيطار رحمه الله رحمة واسعة كما ذكر أخي عاصم كان ينيبني محله في خطبة الجمعة في جامع التقاة وهو من الجوامع الكبيرة في دمشق، فكنت أخطب فيه وأنا في بدء حياتي العلمية، وكتبت بعض الرسائل على ضعفي وعجزي، وأعترف بفضل الله علي إذ نفع الله بها نفعاً كبيراً. ونقل ناقلون بعضها إلى لغات بعض الشعوب الإسلامية دون علم مني والله إلا بعد أن رأيتها مطبوعة، وعلى كل حال ربما كان بعضه من خلو الساحة بسبب انشغال القلة القليلة الباقية من العلماء الذين ينتقصون يوماً بعد يوم، ربما كانت بعض هذه الظروف هي التي دفعتني إلى أن أقوم بهذه المهام على قلة بضاعتي في العلم. |
أيها السادة إن جيلنا أدرك مراحل من الارتقاء والتطور السياسي والاجتماعي والفكري ضخمة جداً في أحوال الناس ومجتمعاتهم قل أن يدركها جيل من الأجيال؛ لقد كان التطور الذي طرأ على أمتنا في القرن الرابع عشر المنصرم يعدل ما واجهته هذه الأمة في القرون الثلاثة عشر السابقة كلها، وقد أدرك جيلنا أكثر النصف من القرن الماضي، وهذا القرن الرابع عشر قرن مليء بالمآسي، إذ بلغت فيه خطوات المكر والكيد بالإسلام مدى ما كان يحلم به هؤلاء الأعداء، إن في هذا التطور جوانب مضيئة غير شك ولكن الشيء الخطير أن الهدم لكثير من قيمنا جانب آخـر لا يقـل حجماً عن ذاك، أقول: هل كان يتصور أحد من المسلمين قبل قرنين أن يقول قائل من أبناء المسلمين نحن لا نريد أن يقوم في حياتنا حكم الله؟! ولا نريد تطبيق الشريعة الإسلامية التي أنزلها الله؟ وهل كان يتصور أحد أن تقدم امرأة من جلداتنا على أن تخرج حاسرة عن رأسها؟ مبدية مفاتن جسدها؟ وتكون كاسية عارية؟ أنا أذكر في بلدنا كانوا يقولون إذا امرأة بلغها نبأ وفاة عزيز عليها ويريدون أن يعبروا عن جنونها يقولون خرجت من البيت بلا غطاء، والآن مع الأسف الشديد كثير من بلاد المسلمين هذا المنظر أصبح شيئاً مألوفاً، إن هذا كله وغيره قد كان في القرن الماضي، وأحتل الكفار بعض بلاد المسلمين فقد فتحت عيني في بلاد الشام على حكم الفرنسيين لبلدي يحكمونها بالحديد والنار، ويفرضون لغتهم فقد كانت اللغة الفرنسية مقررة عليناً في المرحلة الابتدائية والمراحل التي بعدها وأذكر أننا عندما تقدمنا لامتحان الشهادة الابتدائية اجتزنا امتحان المواد كلها تحريرياً ثم شفهياً وكان من جملة هذه المواد مادة اللغة الفرنسية، وقد درسنا أخبار الثورة الفرنسية وحروب نابليون أكثر مما درسنا تاريخ الفتوحات الإسلامية وأعلام المسلمين، وكان المستشار الفرنسي يضع المناهج، يمحو ويثبت ولا راد لقراراته، وأحسب أن أخي الأستاذ عبد الرحمن الباني أقدر مني على التحدث في ذلك. |
لقد غزت يا إخواني حضارة أوروبا بلادنا بأمور عدة من مخترعات مدهشة ميسرة نافعة كالسيارة، والطيارة والهاتف والبرق، وبوسائل الترفيه وأدواته كالغسالة والثلاجة والمكيف والمروحة، وبأدوات المتعة كالمذياع والتلفاز والفيديو، وغزت هذه الحضارة المسلمين بالفكر والثقافة والتعليم وجاء ذلك عن طريق المدارس التبشيرية والمعلمين الأجانب والكتب والمجلات، ووقف الناس في مواجهة هذه الحضارة في العهد الذي نشأنا فيه فريقين؛ فريق هرب من المواجهة وحكم بحرمة أخذ شيء من هذه الحضارة، فامتنع أفراد هذا الفريق عن تعليم أبنائهم في المدارس الرسمية ووقفـوا مـن الحضارة موقفاً سلبياً، وفريق أخذ هذه الحضارة بمساوئها وأفكارها، وحلوها ومرها، وأرسل أفراد هذا الفريق أولادهم إلى المدارس التي تسير على خطا هذه الحضارة، فكان من آثار ذلك أن آل الحكم والتوجيه إلى هؤلاء الذين تلقوا العلم في تلك المدارس وأضحوا رجال الدولة. وكثير منهم كانوا مصابين بالعبودية الفكرية، والعبودية الفكرية أشد خطراً وأسوأ أثراً من الاستعمار العسكري. |
ثم صدمتنا قضية العدوان الصهيوني على بلادنا، فكان وعد بلفور ثم قرار التقسيم ثم قيام دولة لليهود، إن هذا يجل عن التصوير، هل كان أحد يستطيع أن يتصور هذا؟ يقول أحد الشعراء مخاطباً الرسول صلى الله عليه وسلم: |
هل لهذا جئت تسعى |
وهل لك ينتمي همل مشاع |
أإسلام وتغلبه يهود |
وآساد وتقهرهم ضباع |
شرعت لهم سبيل المجد لكن |
أضاعوا شرعك السامي فضاعوا |
|
إن قوى الكفر تكيد لنا وقد أخبرنا ربنا بأنهم مستمرون في هذا الكيد ولا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنِ دِينِكُمْ إِن استَطَاعُوا، وقد أعان المسلمون على أنفسهم أعداءهم عندما رضي جمهرتهم أن يدخلوا جحر الضب الذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، في قوله لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر، وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا اليهود والنصارى؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فمن؟.. ما دام اليهود والنصارى دخلوا هذا الجحر يحاول كثير من الناس الآن أن يدخلوه وقد كان للبدع في بلادنا أيام نشأتنا شأن وأي شأن، وللتصوف رجاله وحماته، ولكني والحمد لله نشأت منكراً تلك البدع والإنحراف في التصوف، وكان الفضل في ذلك لله ثم لوالدي رحمه الله الذي غرس فينا العقيدة الصحيحة، وحملني على طلب العلم وقدم لي من ماله كل ما أحتاج إليه. |
أيها السادة، في المسجد نشأت، وتلقيت علوم الشريعة في حلقات العلماء، وكنت في الوقت نفسه أدرس الدراسة العصرية، فكانت دراستي الشرعية الجادة التي أعدها هي الدراسة الأصلية وقاية لي من آثار الدراسة على المناهج المسمومة، وإن كانت هذه الدراسة العصرية مكنتني من حمل الشهادات التي يتسلح بها أصحاب الأفكار الأخرى وتابعت دراستي العالية. |
أيها السادة وبعد: فإني أود أن أقول الأمل كبير كبير على رغم كل ما مر علينا في تلك الحقبة التي حدثتكم عنها فرب ضارة نافعة، إنني لأجزم أن هذا الكيد المتواصل والمكر المخطط الذي أضحى مكشوفاً والحرب العلنية التي يشنها أولئك الأعداء علينا وعلى ديننا إن ذلك سيفتح العيون العمي ويوقظ القلوب الغافلة، وإني لأعتقد جازماً إن شاء الله أن المستقبل للإسلام لأن الناس رأوا إفلاس الأنظمة التي أدعت أنها تستطيع حل مشكلاتهم فما زادتهم عندما طبقت إلا فقراً وشقاءً ولأن الله الذي خلق هذا الخلق هو أدرى بمصالحهم قال تعالى: رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ، وقال: ورَبُّكَ أَعلَمُ بِمَن فى السَّمَواتِ والأَرضِ، وقال: أَلا يَعلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبيرُ. |
أختم هذه الكلمة بشكر صاحب هذه الدار وبشكركم على الحضور وبشكر هؤلاء الإخوة الذين تكرموا فألبسوني كما قلت لكم في مطلع الكلمة لباساً فضفاضاً تكرماً منهم وفضلاً وأردد على مسامعكم كلمة الصديق العظيم رضي الله تعالى عنه (اللهم اجعلني في أعين الناس كبيراً وفي عين نفسي صغيراً)، فإني أعلم بنفسي، واغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته. |
|
|