((كلمة سعادة الأستاذ الدكتور عز الدين عمر أحمد موسى))
|
الإنسان والعالم
|
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، والشكر لله ثم لهذه ((الاثنينية)) المتفردة بتكريم أهل العلم والإبداع -وهم أحياء- في إطار شعبي مميز... فإذا كانت هذه الظاهرة شنشنة لهذا البلد الحكيمة قيادته، الكريم شعبه، المستقيم منهجه، فإن هذه ((الاثنينية)) تختص بثلاث خصال: |
أولاً: أنها تلبس حلة ندوة علمية، يعرض فيها المكرم حصاد علمه أو إبداعه للناس. |
ثانياً: نشر خلاصة حصيلة المكرم العلمية في إصدارات مطبوعة بلغت مئة وثمانية وسبعين مجلداً (178)، في واحدٍ وثمانين ألفاً ومئتين وثمانٍ وستين صفحة، طبعت في ثمانية وعشرين جزءاً في ستة وثلاثين مجلداً، موثقة بثلاثة آلاف وأربعمئة وست صور فوتوغرافية. |
ثالثاً: بادرت ((الاثنينية)) إلى افتتاح نشاطها النسائي في عام 1428هـ الموافق 2007م كي لا يتعطل نصف المجتمع. |
والشكر موصول لشيخنا عبد المقصود، واللجنة القائمة على هذا العمل، وأنا لا أعلمهم، ولكن أيها الحضور، نساءً ورجالاً، من هذه المدينة ثغر الحرمين الشريفين وبوابتهما، ومن مدن أخرى، من جنسيات متعددة، جاؤوا أرتالاً لمشاركتي و((الاثنينية)) هذا العرس الشعبي، وفيهم الصديق الحبيب، والزميل العزيز، والسوداني المجيب، والقريب اللصيق، والابن الودود، والبنت الحنون، فلا كفاء للمشاق التي تكبدوها إلا التعهد بمزيد من العطاء. |
وها هو كتابي في سبع محطات في حياتي ممتدة لثمانية عقود إلا يسيرا. |
يا شيخنا ماذا تركت لي أن أقول في جهدي العلمي المتواضع، فقد أتيت به في حلة سيراء، وسترة بهية، فما بقي لي إلا أن أكشف عيوبي بقول ما لا تعلمون.. فلم يدع لي شيخنا الدارس الناقد البصير المستبصر غير الحديث عن البيئات التي أخرجت ما كتبت. فالمكرم اليوم سوداني المولد والنشأة، بيروتي الثقافة، أفريقي نيجيري التجربة، سعودي التكامل والنضج.. فهاكم ذلك في سبع محطات متباينة متداخلة، مشكّلة وحدة لا تنفصم عراها. |
|
المحطة الأولى: النشأة والطفولة
|
- المولد في توتي: لا قرية بادية بداوتها ولا هي بندر. |
- عشيرة جمعت الشياختين (الرئاستين) الزمنية والدينية. |
- أسرة صغيرة رقيقة الحال: والد نجار محدود الدخل فيه صبر على العمل القاتل، والدة فيها تديّن بلا فقه ظاهر، تكثر من الدعاء لابنها بالعلم الباهر ليكون مثل "الفكي" الهادي، يهاب الناس طلعته. |
- الأسرة الكبيرة فيها أعلام من الزمن الجميل يشار إليهم بالبنان، وكل في مجاله باذخ؛ في القرآن وعلومه، والأدب وفروعه، والسياسة وتعقيداتها، والإدارة على مختلف أنواعها. |
- طفل يعشق الأسئلة الصعبة والتمرد، فهو دائم الحركة، لا يستقر على حال، كأنه يترقب آتياً لا يأتي... فهل هنا مستودع شخصيته؟ |
المحطة الثانية: شرخ الصبا
|
- اكتسب حرفتيْ الجد للأم والوالد: بنَّاء متقن، ونجَّار ماهر، وكلف بالحرف اليدوية.. هيأ نفسه ليكون مهندساً أو طبيباً لأن ذلك يشاكله. |
- توجّه نحو القراءة في الثقافة والسياسة منذ السنة الثانية المتوسطة مع سلسلة "اقرأ" والصحف والمجلات المصرية والبيروتية على ندرتها، فزادت تساؤلاته وتعقدت. حاول مخالفة المألوف وأوشك أن ينزلق. |
- شغف بالرياضة وبخاصة كرة القدم، وكاد أن يزيغ بسببها ويشقى. |
- كَرِهَ التاريخ في المتوسطة، ورسب فيه في الثانوي، وساقه عناده للامتحان فيه في الشهادة الثانوية من دون مدرس، فهل ذاك الرسوب هو الرسوب الحافز!؟ |
- شهد نخب الخرطوم في منتصف القرن الماضي في مجالس أنس عمه أبي الصحف أحمد يوسف هاشم، وهو يخدمه مع أبي القاسم هاشم، فزاد توتره وتمرده عندما استصحب هذا وما كان يشهد في مجالس أنس الوالد مع شعراء الحقيبة في الأربعينيات... مع مداومة على قراءة القرآن، عادة اكتسبها من تحفيز الوالدة، فشتان بين القرآن والمجتمع الذي يراه. |
- فهل صرفت هذه التجارب توجهه من التعليم التطبيقي إلى الدراسات النظرية!؟ لم يجد في دراسة الحقوق نفسه، فتوجه شطر التربية والتعليم ظانّاً أن هذا هو الطريق إلى التغيير المجتمعي الذي ينشده. |
المحطة الثالثة: بيروت الأولى (مصاحبة التاريخ)
|
- ابتعث إلى الجامعة الأمريكية في بيروت ليتخصص في الجغرافيا، وهناك أصرَّ بعناده على التاريخ أملاً أن يتعرف على داء الأمة المزمن ليستبصر فيه الدواء، رغماً عن رسوبه فيه من قبل. |
- لم تستهوه حياة بيروت الصاخبة، وجذبته بيروت العالمة.. وفي هذا قفشات وروايات مع قمم علم جلس الفتى عند أقدامها.. وقرأ في هذه الفترة ما لم يقرأ من قبل ولا من بعد. |
- كان في البداية عن تاريخ الإسلام نافراً لتقليديته، ولروح التمرد الكامن في نفسه، فوجد نفسه في التاريخ الأوروبي. بيد أن الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري غيَّر مساره، ورغبّه فيما كان كارهاً، لأن تاريخنا أحوج إلى خدمتنا من تاريخ غيرنا، قائلاً إنني أرى فيك ملامح المؤرخ المفكر، وإلى متى نظل في قراءته عالة على غيرنا، هكذا كان أستاذه يتساءل. فرضي الفتى وتحوّل. |
المحطة الرابعة: السودان ثانية (التاريخ والهوية)
|
- كان الهاجس الملازم له وهو يُدرَّس تاريخ السودان، مشكلة هوية السودان والعامل العربي الإسلامي فيها. هجرات عربية، وانتشار إسلام من مسارب منسية أو مجهولة، بوعي أو من دون وعي. |
- والشاغل الأعظم الذي أرَّقه دور الإسلام في مجتمعاته الساكنة وحركات الإصلاح فيها؛ بواعثها ومآلاتها وتداعياتها، وكانت المهدية في السودان نموذجاً.. وتبدى له وقتذاك دور البطل في التاريخ. |
المحطة الخامسة: بيروت الثانية (فترة تكوين)
|
- كانت بيروت في ستينيات القرن الميلادي الماضي مائجة بالحراك الفكري على شتى صنوفه، فحاول التعرف على الفكر العربي الحديث وأعلامه، وسبر غور الفكر الإسلامي القديم ومنجزاته.. فتمددت العلاقات وتجذرت مع قمم علمية عربية معاصرة من أقطار شتى لا يحصرهم عد: ناصر الدين الأسد، مصطفى زيادة، زريق بنيه، أمين فارس، نقولا زيادة، الغول، صليبي، إحسان عباس، محمد يوسف نجم، أنيس فريحة، ناهيك عن أعلام مثل حمد الجاسر والزركلي ومحمد المبارك وأهل الفكر السياسي والاجتماعي والفلسفي إلخ. وكان لإحسان عباس تأثير بالغ في كل مسيرته العلمية والفكرية، ولزملاء دراسته تأثير متبادل، هكذا كان مع مصطفى الحيارى ومحمد عدنان البخيت وأضربهما. |
- تنوعت قراءاته لذلك الفكر وتجسداته، وازداد توتره وارتباكه، وعظمت تساؤلاته. |
- وأهم محطة هي تحديد التوجه الأكاديمي، والتخصص الدقيق: |
- أراد السودان وهجرات العرب إليه وسبقه بها عكاشة (أ. د. يوسف فضل حسن). |
- أراد الكتابة عن البطل، فنظر في عبد الملك بن مروان إنصافاً لبني أمية، فصُرف عنه، ويمّم شطر المغرب، ولنقولا زيادة الفضل في ذلك، وصادف هوى في نفسه. |
- ظن أن الفكر هو محرك التاريخ فكتب تنظيمات الموحدين ونظمهم.. فلم يظفر بطائل. |
- درس الاقتصاد في الفترة نفسها لاستبصار درجة تحريكه للواقع وللفكر، فكان هذا أقرب إلى من عاش إما متمرداً أو متسائلاً أو مستشكلاً. فكانت الثمرة مؤلفه "النشاط الاقتصادي في الغرب الإسلامي"، مبلوراً منهجاً جديداً وأساليب مختلفة عن المعهود، باتخاذ النوازل الفقهية مصدراً، والإحصاء طريقة وأسلوباً، فخرج بنتائج مخالفة لما هو دارج عند المؤرخين، مثيراً مشاكل أكثر من التي سعى إلى حلّها، ففتح الطريق لدراسات جديدة احتضنتها مدارس تاريخية في الرباط ومكناس ومراكش، وبرز فيها أعلام، وأصبح قسم التاريخ في جامعة الملك سعود بهذا المنهج يعرف.. ويحتاج هذا المنهج إلى تجويد وتصويب وتطوير. |
المحطة السادسة: نيجيريا (بدايات تشكل المؤرخ المفكر)
|
- تكامل له مصادر الظاهرة التاريخية باستثمار الدليل الآثاري والتاريخ الشفوي. |
- تجذر منهجه بالاعتناء بالأسباب المتعددة للظاهرة التاريخية، وبالتركيز فيها على العلية والكيفية والمابعدية، وهي تناسب روح الشاكّ المتمرد. |
- أرّقته تساؤلات جدلية الفكر والعمل (أليس هذا أحد مظاهر القلق القديم المستمر!). |
- تأصل البحث التاريخي عنده بالنظر المعمق لاكتشاف الخيط الناظم للظواهر التاريخية، وإن تعددت زماناً وتباعدت مكاناً (حركات الإصلاح الإسلامية مثالاً). |
- التشابه والاختلاف في التجارب الإسلامية على اختلاف مناطقها، وهل هي حضارة واحدة؟ وما مغزى حراك الإسلام شمالاً وغرباً في أوروبا، وحراكه جنوباً وشرقاً في بلاد السودان في وقت واحد؟ |
- هذه المحاور شكلت سائر أعماله تأليفاً وتحقيقاً في هذه الحقبة، وارتاد بها المناطق الرمادية المجهولة أو المنسية أو المسكوت عنها في تاريخنا. |
المحطة السابعة: المملكة العربية السعودية (التكامل الفكري)
|
- أخذت شخصيته في قراءة التاريخ الإسلامي صورتها النهائية، ووضح سمتها المميز، سواء في تناول موضوعات مثيرة بعينها، أو في طريقة تناولها، أو استخلاص النتائج منها، وقد يختلف الناس حولها لعدم ألفتها. وهذه صفة بارزة لكل الأبحاث التي نشرها أو المحاضرات التي قدمها، فهي تنتهي، عنده وعند الناس، إلى استشكالات أكثر مما سعى لفض خاتمها. |
- المشاركات الواسعة في التظاهرات الثقافية والفكرية؛ داخلية وإقليمية. وكان لجامعة الملك سعود والمراكز الفكرية والثقافية دور لا ينسى. وكان لديوانيات الرياض قصب السبق فيها، فقل نشأت معه ونشأ معها، عاش بدايتها مع الرفاعية ثم الوفاء وأحدية المباركين وجلسات حمد الجاسر كل خميس واثنينية الشيخ عثمان الصالح، ثم تكاثرت المنتديات في الرياض، وأصبح في كل ليلة غير منتدى. فهل أراد زهير الحرب أم أراد هذه الظاهرة التي تحمل في كل يوم كِشافاً وتُتْئِمُ، فصاحبنا يفخر بتخرجه فيها. |
- التكريم بالجوائز العلمية وعضوية مجالس المؤسسات الفكرية والثقافية. |
- الإيمان العميق الراسخ بأن العلم الذي لا ينشئ عملاً لا فائدة منه.. ولهذا كثرت في هذه المحطة مشاركاته في المناشط الاجتماعية والرياضية وما بينهما، فاستنزفت طاقاته وهو راضٍ. |
- إن قضايا الفكر الإسلامي وارتباط الفكر بالعمل ارتباطاً عميقاً عبَّدا طريقه إلى الفكر الاستراتيجي، إذ لا رؤية استراتيجية بلا فكر ولا تاريخ... وهذا ميدان بكر جديد للمؤرخ المفكر الذي لا يجمع الروايات وإنما يوظفها، فكان إسهامه في تأسيس الفكر الاستراتيجي الجديد، خليط العسكري والمدني والأمني، شغله الشاغل في السنوات الأخيرة، فكثر تأليفه فيه أكثر من غيره من المجالات، ولجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية فضل في هذا كبير. وأفرغ الجهد في ترسيخه بثمن باهظ، لكن صاحبنا سعيد بخاتمة المطاف. |
- وهل يذكر هذا دون نسبة الأمر لصاحبه، صاحب السمو الملكي الأمير نايف بن عبد العزيز رحمه الله، الذي لولاه لما قامت لكلية العلوم الاستراتيجية قائمة. فهو ذو نظر نافذ وبصيرة تنظر إلى البعيد، وتعشق في العلم الأمني الشيء الفريد الجديد المتفاعل مع القديم، فألف ألف رحمة تغشى قبره ورضوان من الله وغفران... فلينم في قبره هادئاً راضياً فقد أنجز المأمول، وكان له إخوان صدق تابعوا التنفيذ، مثل عبد العزيز بن صقر الغامدي وجمعان رشيد بن رقوش. |
- وهل يحلو الحديث عن هذه المحطة الخاتمة من دون الاعتراف بالفضل لأهله، فإن المناخ العلمي، والبيئة الثقافية، والحياة الفكرية، والانفتاح على الآخر، والحرية الأكاديمية، والحميمية مع الزملاء والطلاب وجمهرة المثقفين كلها عوامل شكلت هذا الذي يتحدث إليكم وأنتم تكرمونه، فأنتم تكرمون هذه البيئة المعطاءة الجاذبة فأصبحا واحة في صحراء العرب الثقافية، بفضل من الله وبذل من دولة راعية، وقيادة راشدة، ومثقف مستجيب، فأنبتت الأصول فروعها... فهذا تكريم المبدعين، والعلماء المتألقين، ديدن آل سعود، حفظهم الله، وسار على دربهم أفذاذ. وما الشيخ عبد المقصود خوجه و((الاثنينية)) إلا حلقة في سلسلة، هي السمة البارزة للمجتمع السعودي. ولقد قيل إن صغار الطير أكثرها فراخاً والبزاة مقلات نذور، فها هو هذا الشيخ الباز ينجب تكريم علماء ومثقفين تَوَهَط عددهم المئة الخامسة، مخالفاً قوانين الطبيعة. |
وما لي إلا أن أتمثل قول شوقي في رسول الله: |
لم آت بابك مادحاً بل داعياً |
ومن المديح تضرع ودعاء |
|
فإني أتضرع إلى الله أن ينعم عليك بدوام الصحة والعافية، وأن يطيل عمرك، ويتقبل عملك، ويجعلك دائماً نبراس هدى، ومثلاً يحتذى. وأن يحفظ لهذه الدولة التي أنجبتك، ولهذا الشعب الذي أخرجك، ولهذه الثقافة التي أنبتتك، الأمن والاستقرار، والتنمية والنماء، ويجعلها قبلة للناس في كل خير. |
معالي الشيخ عبد المقصود خوجه: يا سيدي الفاضل لقد أكرمتني إكراماً كبيراً ووضعتني في خانة أحس معها كأنني أرتدي جلباباً مستفيضاً وفائضاً وواسعاً علي، اللهم سبحانه وتعالى أن يغفر لي ما لا تعلمون ويعينني على ما أنا فيه فأنا لست من الساعين إلى أيٍّ مما طرحه أستاذنا الكبير أنا طالب علم وليس لي في هذه ((الاثنينية)) أكثر من مقعدي الذي أقتعده، وإذا كان هناك من فضل فهو للأساتذة من أمثالكم الذين شرفونا وأعطونا فرصة التكريم والالتقاء بهذه القامات السامقات، وما أنا إلا سبب من الأسباب فأسأل الله سبحانه وتعالى الرحمة لمن رحل وطيب العيش لمن بقي وشكراً لك يا أستاذنا الفاضل. |
عريف الحفل: شكراً لسعادة ضيفنا الكريم الأستاذ الدكتور عز الدين عمر موسى على ما تفضل به لجمعكم المبارك من حديث شيّق ممتع عن مراحل مفصلية في حياته العلمية والعملية أمد الله في عمره وفي عمر مكرمه هذه الليلة. |
أيها الإخوة والأخوات، الآن نعطي الفرصة لقسم السيدات للترحيب بضيفنا الكريم ولنبدأ طرح الأسئلة وليكن السؤال الأول أيضاً من قسم السيدات. أنقل الميكروفون الآن إلى الأخت الزميلة نازك الإمام في قسم السيدات. |
|