شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة الأستاذ فؤاد قنديل))
بسم الله الرحمن الرحيم. السادة الحضور الكرام أسعد الله مساءكم بكل خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أفتقد الآن إلى كل بلاغة تعلمتها، وإلى كل شعر قرضته ونظمته، والى كل جرأة وجسارة أتناول بها موضوعاتي، أفتقد ذلك كله الآن، وأنا أرى أمامي هذه الوجوه الطيبة الحنون التي تحمل كل المحبة والتقدير والترحيب.
أبدأ حديثي أولاً بتحية تلك القامة السامقة النبيلة، شخصية مؤسس هذه ((الاثنينية)) معالي الشيخ الفاضل الكريم الأديب المفكر الأستاذ عبد المقصود خوجه. هذا الرجل الذي أتابع على يديه ((الاثنينية)) منذ عدة سنوات، وأنا أراه يرعى الأدب والأدباء، والفكر والمفكرين، والباحثين، والعلماء بكل نخوة ومحبة وتقدير، رعاية الأخ.. رعاية المعجب.. رعاية الأب.. رعاية العاشق.. فهو عندما يقدّم هذه الخدمات الثقافية النبيلة الموضوعية الجليلة، فإنما يقدّمها إلى فريقين: الفريق الأول هو الأمة العربية بلا شك، ثم الفريق الثاني الذين أهل هذه القبيلة.. قبيلة الأدباء والعلماء.. قبيلة عشاق الكلمة وحرية التعبير.. القبيلة التي تعشق الإنسانية. فكل شاعر، وكل كاتب، وكل مفكر إنما يكتب في الحقيقة للإنسانية، ولا يكتب لنفسه.. إنه يكتب للحياة من أجل أن تتطور. ولذلك لا أتصور أبداً أن هناك كاتباً نابغاً، أو شاعراً مجيداً يمكن أن يكون ذا قيمة، إلا إذا كان قادراً على أن يقدم لنا نصاً ملهماً.. نصاً يغيّرنا نحن، ولا يغيره.... فهو قصير النفس ومحدود الموهبة.
سيداتي وسادتي... أحييكم وأجد أن الحديث عن تجربتي هو حديث عن النفس، غير أن النقاد والمفكرين عودونا على أن هذا مثل هذا الحديث، إنما هو حديث للغير.. حديث للرفاق أمثالكم.. وحديث أيضاً لشباب الأدباء كي يتعلموا، أو كي يعرفوا للقليل ممن سبقوهم، وسأتم في العام القادم السبعين من العمر.. أطال الله في أعماركم، ومتّعكم بموفور الصحة والسعادة والتوفيق. لقد مضى عليّ خمسون عاماً من العمل الثقافي، فقد بدأت نشاطي الثقافي منذ عام 1962م، بالعمل في استديو مصر أو شركة مصر للتمثيل والسينما، ثم بعد ذلك في هيئة حكومية، هي الثقافة الجماهيرية، وكنت فيها خادماً للأدب والأدباء.. خادماً للثقافة، ومنشطاً ومؤسساً لإدارات عديدة من شأنها أن تستقبل الأدباء وتحتضنهم وتحمل عنهم أعباءهم، وتذلل العقبات أمامهم والحمدلله، فعندما أُحلتُ إلى التقاعد من الناحية الوظيفية، كنت قد قدّمت إلى الحياة الأدبية المصرية نحو ثلاثمئة وخمسين كاتباً، بين شاعر وكاتب مسرح وقصاص وروائي.. وذلك من خلال نشر كتبها، ومن خلال الكتابة عنها في الصحف، ومن خلال عمل مراجعات لها ونقد لأعمالها من خلال الإذاعة والتلفزيون.
شعرت منذ البداية -وأنا صغير في سنِّيَ الأولى- أنني أحب أو أحرص على الكرامة، وأكدت لي هذا أسرتي، وخاصة والدتي، أنه يجب ألاّ يكون الإنسان بلا كرامة.. قد يكون بلا أي شيء آخر إلا الكرامة. وفي هذا الشان أذكر أن أمي قالت لي: "الكرامة تتطلب الحرية،والحرية تتطلب الصدق، فكيف تكون حراً إن كنت كاذباً؟ حينئذ لن تكون حراً، بل عبداً. كما أن الحرية والصدق يتطلبان الأمانة، ويتطلبان احترام الكلمة. وهذا يعني الرجولة الحقة. وهو يعني كذلك تقديس العمل، فإذا كنت لا تقدس عملك فأنت لست حراً، ولست صادقاً ولا أميناً".
لقد تعلمت على يد أمي التي لم تعرف القراءة ولا الكتابة، فكانت مثل هذه المعاني تقلتني فجأة إلى قراءة سير الأعلام من كتاب ومفكرين وثوار وأحرار ومؤرخين ومناضلين، ووجدت بالفعل أن للأعلام الكبار أدواراً كبرى في خلق حضارة الأمم والشعوب وتطوير حياة البشر. ولكن سلاحهم الأول كان بالفعل ما حدثتني عنه أمي.. الكرامة والحرية، تقديس العمل وحب الناس والتضحية من أجلهم، كما أنني عندما قرأت للأعلام، أحببت أعلام الأدب تحديداً. ووجدت أنني معجب بكتاباتهم، فتأثرت بهم، وحاولت تقليدهم، مثل شوقي وطه حسين وحافظ إبراهيم وغيرهم من الكتاب والشعراء. وبدأت بكتابة الشعر (الشعر الفصيح والشعر العامي)، ولكنني أدركت بعد فترة أنني أميل للحكي وللقص ولرسم الشخصيات.. فقد كنت أريد أن تكون الحياة نابضة على الورق، وأردت ان أرسم حياة شخصيات أعرفها .. فلاحين.. وعمال بسطاء.. ومجانين أقوياء وشرسين ومتوترين.. كرماء ونبلاء ومضحين .. كل هذه النوعيات المختلفة من البشر هي التي يجب أن نكتب عنها، ولكن من خلال حياة نابضة بالمشاعر.. بالحب.. أو بالكراهية.. بالفشل.. بالجبن.. بالشجاعة.. بالجسارة.. هذه هي الشخصيات التي يجب أن تحيها الروايات والقصص. ولذلك انتقلت بمساعدة عدد من النقاد إلى كتابة القصة. ومن بعد ذلك إلى الرواية. فالرواية عالم جميل، يحاول أن يطوّر حياة البشر. ولو نظرنا إلى أوروبا، على سبيل المثال، إلى شعوب العالم المتقدم فسوف نلحظ أن الفضل في خلق هذا المجتمع المتحضر لم يكن للعلم، ولكنّه كان للقصة والرواية، ذلك أن الآباء والأمهاء والجدّات في هذا العالم، حاولوا أن يحكوا قصصاً للأطفال الصغار، سواء من تأليفهم أو من تأليف الكتاب، أو ما ورثوه من أسلافهم من الأجداد والسابقين. فالقصص تصوّر للأطفال عوالم.. تصوّر لهم الشجعان الكرماء المضحين من أجل البشر، ومن أجل أنفسهم، ومن أجل الشعوب، ومن أجل الآخرين.. من أجل الجيران، ومن أجل القيم النبيلة، وقد لا يظهر هذا في الشعر، لكنه يظهر في القصص، وبالتالي قرأت هذه القصص، كما قرأت قصصاً أخرى.
لقد تعلم القُرّاء الأوربيون على يد كبار الكتاب من أجيال مختلفة، بدءاً بشكسبير أو ميغيل دي سرفانتس في (دون كيشوت)، وغيرهما من أمثال شارلز ديكنز، وفيكتور هوغو، وبلزاك، وإيميل زولا، ومن بعدهم همنغواي ويوجينوا نيل وغيرهم من عشرات الكتاب، خصوصاً الكتاب الروس، فمثلاً أنا شخصياً تتلمذت على يد الكتاب الروس مثل تولستوي وتشيخوف وبوشكين وتورجنيف وجوجول وغوركي وغيرهم من الكتاب العظام، بل أظن أن جميع كتاب العالم العربي تقريباً، تتلمذوا على يد الكتاب الروس، قبل أن يقرأوا للفرنسيين والإنجليز والأمريكان وغيرهم. فالكتاب الروس ما زالوا يعيشون معنا .. ونحفظ تماماً .. أو نتذكر جميع أعمالهم، سواء أعمال تشيخوف أو غوركي أو تولستوي... إلخ.
في الحقيقة عندما بدأت الكتابة، تساءلت ما الذي يمكن أن أضيفه إلى من سبقني، وأساتذتي كثر؟ وما هو الشوط الذي يمكن أن أقطعه بعد ما قدموه من إضافات إلى الأدب العربي؟ فلذلك لم أتعجّل، لكني فكرت وأجريت بعض المحاولات، إلى أن توصلت إلى أن المذهب الرمزي والواقعية السحرية والفانتازيا، غير موجودة إلا قليلاً جداً في العالم العربي، ويستوردها من يكتب فيها من أمريكا اللاتينية، على الرغم من أن أصولها عربية، وأنا شخصياً معجب بهذه الأساليب الفنية، واستخلصت أنها وُلدت في العالم العربي.. فمن دون شك يدرك الحضور أن من أشعار العالم العربي، ما يمكن أن يُعدَّ في الحقيقة مؤسساً للفانتازيا الخيالية، والكاريكاتورية، والواقعية السحرية، فلنستمع مثلاً إلى المتنبي، وهو يقول:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صممُ
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جرّاها ويختصمُ
ونراه في قصيدة أخرى يقول:
كفى بجسمي نُحولاً أنني رجلٌ
لولا مخاطبتي إيّاكَ لم تَرَني
هذه الصور وهذا الخيال هو في الحقيقة الأصل الأول لما ابتكره وافتخر به وزها كتاب أمريكا اللاتينية، وزهوا به على العالم أجمع، وعلى الأدب العالمي، فاعتبروا أنهم رواد الواقعية السحرية ومخترعوها. ولكن الواقعية السحرية هي بنت الأدب العربي ونتيجة الابتكار العربي في مجال الكتابة الأدبية، سواء كانت شعراً أو نثراً. حتى السيِّر مثل "الهلالية"، و"الأميرة ذات الهمة"، و"عنترة" وغيرها، لا بد أن حضراتكم قرأتموها عدة مرات، ولا بد أنكم لاحظتم بسهولة المبالغة في التصوير. وما هذه المبالغة إلا نوع من الرسم الكاريكاتوري الذي يساعد على تعميق الإحساس بالشخصية وببطولة الثائر مثلاً، أو ببطولة الشجاع، أو بكرم الكريم، أو بشجاعة الشجاع. فهذه الملامح كلها هي ملامح عربية أصيلة. ولذا فأنا لا أعمد كثيراً إلى الاستفادة من الآداب الأوروبية والغربية، بل أعود إلى التراث العربي لأنهل منه، وأستمتع به، ولأستفيد منه. ولكن للأسف، ما نراه هو أن الأجيال الجديدة من كتابنا الشباب لا يلتفتون جيداً إلى التراث العربي الحافل بالشعر، وبالسيِّرة، وبالرواية، وبأدب الرحلات كذلك.
ولا يفوتني هنا القول بأن أدب الرحلات -وقد كتبت كتاباً ضخماً عن أدب الرحلة في التراث العربي- هو في صميم الأدب العربي وأكثر ما كُتب فيه في العالم. وهو أدب يستعين به الغربيون ليعرفوا ما كانت عليه شعوبهم منذ ألف عام، كما يفعل الروس مثلاً أو سكان المناطق الشمالية من آسيا وأوروبا، فهم لا يتوفر لديهم كثير من المعلومات عن فترة القرون الوسطى مثلاً، ومن المعروف أن أدب الرحلة العربي كان متفوقاً ومنتشراً للغاية. فقد كتب كُتّابنا في تلك العصور عن بلدان عديدة، من الصين شرقاً إلى الأندلس وغرب أوروبا غرباً، وتناولوا في كتابتهم ثقافات تلك الشعوب واقتصادياتها، وتاريخها، وعاداتها، وتقاليدها. ولذا نرى أن مثل هذه الشعوب -كما أشرت- مثل الشعب الروسي وشعوب كثيرة من شعوب أوربا تعود إلى كتب أحمد بن فضلان، وأبو حامد الغرناطي الأندلسي، وابن سعيد المغربي وغيرهم من الكُتّاب، لكي يبحثوا عن تاريخهم هم وعادات شعوبهم في كتبنا نحن. ولكن هناك كتب كثيرة جداً في مجال أدب الرحلة، لم تُحقّق ولم تطبع، وما طُبع لا يمثل إلا ظاهر جبل الجليد، أي أقلّ من ربعه ظاهر والباقي تحت الماء. وأجد في هذه الأمسية مناسبة جيدة بما أنني أتحدث إلى مجموعة كبيرة من المثقفين لهم باع في كافة المجالات، ولربما يكون من بينهم محققون، أو علماء وباحثون، فأقول إن أدب الرحلة هو أهم منجز عربي على المستوى الثقافي والتاريخي والجغرافي، من بعد الشعر، فيا حَبّذا لو التفت في هذا الجمع إلى هذا الأدب وأولوه عنايتهم واهتمامهم.
أما بالنسبة إلى الرواية والقصة القصيرة ولكتاباتي، فأنا أحرص دائماً في كل كتاب على التجريب والتجديد. ولا يكون التجريب عندي لغرض التجريب، وليس لمجرد أن أكتب كتاباً مختلفاً عن الذي سبقه، ولكن عندي تكون العبرة بمحتوى الكتاب، سواء من الناحية اللغوية، أو من ناحية الموضوع، ومن الناحية التقنية، والأسلوب والشخصيات والأماكن والرسالة. فهذه العناصر هي التي يتكون منها العمل الروائي، ويتعين على الكاتب الاهتمام والعناية بها، لأن هذا هو الأصل في الفن. فالفن إذا كان عملاً متشابهاً مع ما سبقه، فلا يُعدّ فناً في نظري، فالكتابة إبداع، وإنما الإبداع تخليق وتقديم أفكار جديدة ملهمة. وهي لا بد من تكون ملهمة -كما أشرنا في بداية الحديث- ولذا عليّ أن أصبح شخصاً آخر بعد أن أنتهي من قراءة كتاب ما، ومغايراً لما كنت عليه قبل قراءتي له. فلو كانت المسألة متكررة ومتشابهة، فما الذي يمكن أن يُضاف إليّ، وما الذي يمكن أن يضاف للبشر؟ وكيف يمكن أن تتقدم البشرية؟
لقد قدّم كاتب اسمه تشارلز ديكنز كتاباً بعنوان "ديفيد كوبرفيلد"، وغيره من الروايات في شكل من أشكال تصحيح مسار الشعوب. صحيح أنه كتب كتابة جميلة وممتعة، وقدم إلينا شخصيات جذابة ورائعة، ولكن من ميزات الكتابة أنها لا تقدّم حلاً سحرياً عاجلاً، فهي تقدم لنا تأثيراً بعيد الأجل يدخل إلى الوجدان والعقل والروح، ومن ثم يتغير البشر بعد فترة، أو يظهر من بين البشر من يغيّر نمط حياتهم معتمداً بذلك على الكتب التي قرأها، أو استمع إليها، أو شاهدها. فالأمر ليس مثل الضغط على مقبس كهربائي، يتحوّل المرء مباشرة إلى شخص آخر بعد أن يقرأ كتاباً ما.. الأمر ليس كذلك، فالأدب يغيّر الشعوب، وذلك بتغييره الحكام أولاً. ولذلك إذا بحثت في حياة عدد كبير من الحكام المرموقين فستجد أنهم قرؤوا القرآن الكريم، وأمهّات الكتب الدينية، وسير الأعلام، وكتب المؤرخين، والمناضلين، وما كُتب عن الحروب أو عن الثورات، وكتباً عن متغيرات حياة الشعوب، وعن المدارس الجديدة في الاقتصاد السياسي، وعن القواد الكبار... إلخ، إذ لا يمكن أن لا يكون حاكم اليوم قد قرأ عن الإسكندر الأكبر مثلاً، أو عن نابليون، أو عن الملك عبد العزيز، ليقتدي بهم، أو حتى عن هتلر وموسوليني لكي يتجنب الوقوع في فاشيتهم وديكتاتوريتهم وطغيانهم. فالحياة يجب أن تتطور عن طريق الثقافة التي تغيّر حتى شخصية الرجل العادي البسيط. فثمة فرق كبير بين شخص بسيط مثقف وشخص بسيط لا يُقبل على القراءة، ولا يستمع إلى الموسيقى، ولا يقرؤ القرآن أو الكتب الدينية والأحاديث، ولا يُشاهد معارض الفن التشكيلي، ولا يعرف شيئاً عن مثل هذه الأعمال الجميلة، فالفنون بالدرجة الأولى هي علوم جمالية، إذا جاز التعبير، وهي نصوص جمالية غرضها الجمال ورفع الوعي ولكن بشكل جمالي. إنها ليست حُقناً نحقنها، وليست دروساً نستوعبها في فصول المدرسة. إن الفنون والآداب مختلفة. فالآداب تتسلل إلى أرواحنا وعقولنا، فنرى الحياة بنظرة مختلفة، أو كما قال أحد الفلاسفة: الثقافة هي التي تجعل الحياة جديرة بأن نحياها، لأنه لا يمكن أبداً أن يكون هناك حاكم مثقف، ويكون في الوقت نفسه طاغية. هذا محال. لا بد من أن يكون حساساً مرهفاً مستمعاً حنوناً يشعر بمشاعر الآخرين، ويفكر في أحاسيسهم وفي مستقبلهم، ويفكر فيما يتمنون. لذلك فمن مزايا الأدب أنه كزرقاء اليمامة يمكنه أن يستشرف المستقبل، ليس بمعنى النبوءة والتنبؤ بالمستقبل، ولكن لأنه يجيد قراءة الحياة الحالية. فكما أشار أستاذنا معالي الشيخ عبد المقصود مثلاً أننا عندما نتابع الأحداث الجارية في الوطن العربي، فنقرؤ عن مسيرة الملك عبد العزيز أو الملك فهد.. أو مسيرة جمال عبد الناصر أو السادات أو مسيرة فلان أو فلان، فلا بد أن نقرأ من هذه المسيرة شيئاً عن المستقبل، على الرغم من أنها من الماضي. فعندما ننظر مثلاً إلى مصر الآن يمكن أن نتخيل مثلاً ما الذي يمكن أن يحدث غداً. لا يعني هذا أنني ممن كُشَف الحجاب عنهم كما يقولون، بل هناك دائماً أسباب، ونتائج، وعلل وعلة ومعلول، هكذا هي الحياة، فعندما ترى شاباً يمضي في حياته بمنتهى الحماقة والاندفاع، فما الذي يمكن أن تتوقع له؟ فإذا توقّعت له مثلاً مسيرة عرجاء أو فاشلة، فهذا لا يعني أنّك تتنبأ، أو أنك مُلهَم، أو أنّك موحى إليك، ولكنك صاحب فكر تتأمل ما حولك جيداً وتحلّله، وكيف يمكن أن ينتهي به هذا المسار؟ هل إلى خير.. إلى فشل.. إلى سعادة.. إلى توفيق.. إلى وفاق.. إلى إلهام..؟
لذا لا بد من أن نقرأ في الثقافة، وأن نقرأ في الكتب، وأن نقرأ في الحياة.. فقد كانت أول كلمة أنزلها الله سبحانه وتعالى إلى نبينا الكريم محمد ها الله سبحانه وتعالى إلى نبينا الكريم محمد صلى الله عليه و سلم هي "اقرأ". ولا تقتصر القراءة على القراءة في الكتب، بل تتعداها إلى قراءة الحياة، وقراءة العيون، وقراءة الوجوه الطيبة الجميلة التي تُشرق أمامي، وقراءة الأحداث والمستجدات، وحتى قراءة السماء، والمطر، والطقس، والظروف، والحكم، والسياسة والقيادة، وقراءة الحنان والرقة، وقراءة السلوك السيء، وإلا فإننا لن نتقدّم على الإطلاق إذا لم نتغيّر. ولن نتغيّر إذا لم نقرأ لكي نتعلم وندرك ما سيأتي، فقصة الأسد مع الثور معروفة، عندما قتل الأسد الثور الأبيض وأكله، أو الثعلب والأرنب مثلاً، فلما جاء دور الثور الأبيض أدرك ما سيحدث له بعد ما اعتبر مما حصل أمامه. فلا بد من أن نقرأ، وهناك ما هو متاح في جميع المجالات.
شخصياً أحب أن أقوم بالتجريب، ولكنني مرتبط بمجتمعي، فترونني أقدّم رصداً لحياة مصر والعالم العربي في كتبي، ولكن بصورة جمالية. فالواقعية في الفن لا تعني أن تخلق عملاً موازٍ يشبه الواقع تماماً، وكأنه صورة طبق الأصل عنه، ولكنه نظرة إلى الواقع بعينيك أنت. فعيناك ككاتب مختلفتان، وعينا الفنان مختلفتان كذلك. كما لا يمكن لأحد أن يصف ما يجري بالضبط، وإلا فإننا سنصوّر -مثلاً- بعض الشعوب أو بعض الأسر بأنها هانئة جداً، في حين قد يكون ثمة خلل ما داخل هذه الأسر، يبدو في العيون وفي الوجوه، ولا تكشف عنه الألسنة.. فهناك خفايا وأستار وأسرار. وملخص الكلام: لا بد أن نكتب جمالياً عن ما نراه.. وما وراء ما نراه، وليس ما نراه فقط. فما نراه يعرفه كثيرون أكثر مني. فالرجل العامل البسيط يعرف عن الحياة أكثر مني، لكنه يفتقد إلى الأسلوب، فهو لا يوجد لديه لغة، ولا فنيات..
ثمة مسألة أخرى مهمة في فن الكتابة، وهي أن تعيش ما تكتب عنه قدر المستطاع. فأنا غالباً ما كنت أقول للكُتاب الجدد: عندما تكتب لي - عن أنك كنت محشوراً في الحافلة (الأتوبيس)، فاذهب أولاً وانحشر في الحافلة، عدّة مرات، لتشعر بشعور المضغوط في الحافلة، وكذلك عندما تتحدث في قصة عن البقرة التي تلد عجلاً صغيراً، أو عن الناقة التي تلد جملاً صغيراً، فاذهب وعش فترة بين مربي البقر والإبل، وتأمل وانظر في عيني الناقة وهي تلد، فسوف تجد كلاماً وحديثاً طويلاً رائعاً يمكنك أن تعبر عنه في كتاباتك.. إذاً المسألة هي مسألة معايشة.. فالكتابة من دون معايشة هي كتابة من برج عاجيّ لا قيمة لها، وستبدو باردة، ولا يمكن أبداً أن تؤثر في القارئ، لأن ما يخرج من القلب يصل إلى القلب.
لا أريد أن أطيل أكثر، فلربما نطالعكم ببعض الإضافات في أثناء التعليق على بعض الأسئلة، وليس الإجابة عنها. ومرة أخرى أشكر لحضراتكم تجشمكم المتاعب من أجل الحضور إلى هذه الندوة الرائعة الجميلة التي نسمع ونعرف عنها الكثير في مصر، وتحية مجددة ودائمة وإلى نهاية العمر لمؤسس ))الاثنينية(( الفاضل الكريم الأستاذ عبد المقصود خوجه.. شكراً جزيلاً.
عريف الحفل: شكراً لسعادة ضيفنا الكريم، الأستاذ فؤاد قنديل على هذه الوقفات وهذه اللمسات الجميلة. ونبدأ بطرح الأسئلة. والفرصة الآن متاحة للضفة الأخرى في قسم السيدات.. فإلى الأخت نازك الإمام.. على السائلة الكريمة أن تعرّف بنفسها، ثم تلقي سؤالها مباشرة، أي من دون مقدمات.
 
طباعة
 القراءات :229  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 125 من 163
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.