((كلمة سعادة الأستاذ يوسف المحيميد))
|
في البداية يسعدني أن أتقدم بالشكر الوافر لاثنينية عبد المقصود خوجه، وللأستاذ عبد المقصود خوجه، على تكريمي هذه الليلة، خصوصاً أن هذا التكريم يأتي من مؤسسة ثقافية متميزة استطاعت أن توفّر كتب رواد الفكر والثقافة ومؤلفاتهم، سواء بالنشر الورقي أو الإلكتروني، وإتاحتها للدارسين والباحثين والمهتمين، داخل البلاد وخارجها، وهو دور ثقافي تنويري يجب الإشارة إليه، والإشادة به. |
في لحظات التكريم تنتابني رغبة شديدة بالتلويح إلى أجمل الساردات في العالم، تلك التي لديها قدرة مذهلة في السرد الشفهي تفوق أكثر الروائيين مهارة وحنكة، تسرد حكاية واحدة مئات المرات، كل مرة تسردها بطريقة جديدة، بمئات الأساليب، فمنها تعلّمت أن النهر يجري بمئات الصور المختلفة، فالموجة لا تشبه الموجة، ولا اللحظة تشبه اللحظات، لذلك علينا أن ندرك أن للحكاية وجوه كثيرة، وهي تختلف بين الساردين، بل تختلف لدى السارد نفسه حينما يرويها عدة مرات، كما كانت تفعل أمي يرحمها الله. |
لماذا الكتابة أولاً؟ ولماذا الرواية تحديداً؟ ومن أي الحقول جئتُ؟ وهل لعبت الظروف دوراً في ذلك؟ سأذكر مواقف عابرة في الطفولة قد تشير، بشكل أو بآخر، أين كنت، وما كان سقف حلمي، وكيف تحولت؟ |
حينما كنت في العاشرة، وفي نهاية المرحلة الابتدائية، كنت قد قرأت الكثير من الروايات المترجمة، وسلسلة المكتبة الخضراء، تلك التي كانت أختي الكبرى تستعيرها من زميلتها، ونقوم معاً بنسخها ورسم لوحاتها، كي ننجز نسخاً مقلَّدة، نحتفظ بها، ونكوِّن مكتبة منزلية صغيرة، مليئة بالقصص المنسوخة المتواضعة الجودة. بعد ذلك كبر الحلم، وقررت أن أحوِّل هذه القصص المنسوخة إلى قصص متحركة، وذلك برسمها على ورق مقوَّى وتفريغها، ثم تعريض الفراغات إلى ضوء مصباح يدوي في ظلام الغرفة، فتظهر صور الشخصيات على جدار غرفة أمي، بعد أن أكون قد جهّزتُ مونتاجاً صوتياً، يتضمن الحوار والمؤثرات الصوتية. باختصار كنت أقدِّم لأمي ولأخواتي الثلاث فيلماً متواضعاً، فهل كنت آنذاك أحلم بأن أصبح مخرجاً سينمائياً، ربما. لكنني ذهبت إلى التشكيل، وتحوَّلت غرفتي الصغيرة في زاوية بيتنا في "عليشة" إلى مُحتَرفَ تفوح منه رائحة ألوان الزيت، إلى أن رضختُ ذات ظهيرة لرغبة أمي بأن أكفَّ عن رسم ذوات الأرواح. كانت تتوسل بأن أرسم ما أريد، إلا وجوه البشر، وكنت لا أتقن سوى رسم "السيدر تريه"، ورسم ملامح وجوه الأطفال بدقة متناهية، فقررت أن أتوقف، لكنني لم أستطع أن أصمت طويلاً، فكيف إذاً سأتقن التعبير، وبأي شكل فني؟ هكذا ذهبت متلصصاً إلى التصوير الفوتوغرافي، أحمل أدواتي معي أنَّى اتجهت، الكاميرا والعدسات والمرشحات الملوَّنة وحامل الكاميرا، تدهشني التفاصيل فأدونها بالكاميرا، أعشق الكائنات الراكضة فأوقف سيرها الحثيث داخل صندوق الكاميرا، هكذا كنت أتنقل بين عدد من الفنون البصرية، من ما يشبه السينما، إلى التشكيل، فالتصوير الضوئي، فهل كنت أدرِّب بصري جيداً، كي أصل إلى التصوير بالكلمات؟ هذا ما حدث فعلاً. فلم أرسم وجوه الناس بالفرشاة والزيت، بل بالقلم والحبر، ولم أحرِّك الصور على لوحة العرض الجدارية، وإنما حرّكتها على الورق الأبيض الموحش، ولم تكن هذه التجارب القديمة غير ذات جدوى، أو مجرد إضاعة للوقت، بل كانت هي الأساس البصري المهم، الذي استفدت منه في الكتابة السردية فيما بعد. |
وفي الطفولة أيضاً، كنت أقضي مع عائلتنا الكبيرة، إجازة الصيف الطويلة في حقول أبي ومزارعه الشاسعة، كان الحقل المذهل في "البطين" شمالي بريدة، ضاجاً بالطيور المتنوعة، التي تتنقل بين النخل العالي، وأشجار الأثل التي تسوّر البستان، وتطل من علوها الباذخ على دالية العنب التي تمتد قرابة كيلومتر، كنت أدخل تحتها وأنصت جيداً للحشرات الصغيرة، وحينما أصعد إلى القنطرة التي تسير فيها ساقية الماء، الذي يوسوس بانسياب ولمعان فضِّي، كانت موسيقى الرياح تدفع بالأثل العالي الضخم، فيصدر صوتاً يشبه الفحيح. هكذا كنت أنصت ثلاثة أشهر، من صيف كل عام، إلى الطبيعة البديعة، وكأنما على غير إرادة وتخطيط، درَّبت حاسة البصر والسمع، في مرحلة مبكرة من عمري. |
لا أريد أن أستكمل ذاكرة طفولتي مع الحواس، لأنها ظهرت جلية في معظم أعمالي القصصية والروائية في ما بعد. ولعل رواية "فخاخ الرائحة" استثمرت كثيراً توظيف الحواس، ففيها ظهرت حاسة الشم، لدى الشخصيات الثلاث، وكيف كانت مؤثرة في رسم حياة كل واحد منهم، فأحدهم ساعدت رائحته الآدمية ذئاب الصحراء لأن تصل إليه، والآخر غررت به رائحة الشَرَك أو الفخ كي يصبح مجرد رقيق يباع ويشترى، والثالث قدم إلى الحياة بفعل رائحة نفاذة عصفت برأس والده الذي تنصَّل من أبوَّته. |
هي الحواس إذاً، التي تقودني حيناً، وأقودها أحياناً كثيرة، فما أبهى أن نلغي حواسنا فجأة، ونبقي إحداها، كي نرسم بها صوراً مكتملة للأشياء هكذا استبدت حاسة اللمس بشكل عالٍ في رواية "نزهة الدلفين"، وأصبحت الأيدي الناعمة الجميلة دلافين شقيّة، وهي تتعارك مع غيرها بشغب، تتحسس جلدها، وتقفز من جانب إلى آخر، تصعد وتهبط، كالدلافين في عرض البحر. |
أحب الكتابة كثيراً، وأتلذَّذ بها، بل إنني أيضاً أحب الطريق التي تقودني إليها، أحب لحظة البحث عن معلومة صغيرة وغائبة، لأنني في الطريق إلى هذه المعلومة أعثر على مفاجآت مدهشة، لم أكن أتوقع أن أظفر بها. هي إذاً لعبة البحث عن كنوز مخبوءة، تحت طبقات الأرض، أو في السحَّارات، أو في ورقات سِفر قديم، فما أجمل الرحلة، وما أبهى الظَفَر! |
ولكن ما هو الظفر من هذه الرحلة الطويلة مع الكتابة خلال ربع قرن؟ هل هو النشر والترجمة والجوائز والتكريم وربما الشهرة؟ أم هو القارئ الذي يحاورني كثيراً، سواء في العالم الافتراضي، أي الإنترنت، أو في الواقع؟ ما الذي خرجت به بعد ربع قرن من الكتابة؟ قد تكون إجابتي صادمة أحياناً، وهي أنني لم أخرج إلا بخيوط صغيرة من السعادة ترتسم على ملامحي حينما أنجز نصاً جديداً، وهي السعادة التي تلتقطها أمي، يرحمها الله، حينما أكتب، لأنها تستطيع ببساطة أن تصطاد فراشات الكآبة التي ترفرف فوق رأسي حينما أتوقف عن الكتابة، لأنني حينها أتوقف عن الشغف، وعن الحب، ألم أقل ذلك من قبل؟ الكتابة حالة شغف ووجد ووله لا حدود له. |
في الختام أشكر هذه الدعوة الكريمة لتكريمي، كما أشكر حضوركم وإنصاتكم لثرثرة رجل لم يزل يتقافز فرحاً، كالطفل، حينما يكتشف سراً صغيراً في الكتابة والإبداع. |
عريف الحفل: شكراً لسعادة الأستاذ الروائي يوسف المحيميد على هذه الرحلة التي أخذنا فيها عبر سنوات مضت مع الكتابة. أيها الإخوة والأخوات كما ذكرت لكم قبل الاستماع إلى ضيفنا ستكون الأسئلة من قبل الإخوة والأخوات.. كلٌّ يتقدم بطرح سؤاله بعد أن يعرّف عن نفسه. لكن قبل ذلك وكما وعدتكم هنالك مداخلتان من قبل الأستاذتين الدكتورة فاطمة الياس والدكتورة لمياء باعشن، ولنبدأ بمداخلة الدكتورة فاطمة الياس فلتتفضل. |
|