شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة معالي السيد أمين عقيل عطاس))
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا محمد الطاهر الأمين.
السيدات والسادة. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. لا يمكنني التعبير عن شكري للثناء على الذي سمعته من الإخوة الكرام، وفي طليعتهم أخي وحبيبي الشيخ عبد المقصود خوجه، والدكتور عبد الوهاب أبو سليمان، والأخ إحسان طيب، والأخ عبد العزيز. فجزاهم الله خيراً. وإنما أنا فأحمد الله سبحانه وتعالى الذي فتح باب الخير لعباده، فأعتبر هذا التكريم ليس لشخصي، وإنما هو لرجالات العلم أولاً، وأصحاب أعمال البرّ ثانياً، وفي مقدمة هؤلاء الحاج محمد علي زنيل -رحمه الله- الذي عاصرته، وأنا طالب في الفلاح، فأذكر أنه كان يزورنا، ونحن في المرحلة الثانوية، وكان يحدث كل طالب هاشاً باشاً كأنه والده. وبعد وفاته كان يتفضل عليّ أستاذي ومربينا السيد إسحق عزوز بزيارتي يومياً في بيتي، فكنت أسأله عن الحاج محمد علي زينل بالتفصيل، فكان يشيد به إشادة بالغة جداً. وأخبرني أنه خصص ماله للعلم. ومما سمعته من إسحق عزوز عنه أنه كان يمر في جدة، ويرى بأم عينه أن الناس لا يجيدون القراءة، فكان يحزّ ذلك في نفسه، خصوصاً في الفترة التي عمّ فيها التتريك (عندما حولوا التعليم من العربية إلى التركية). فحرص على إنشاء مدارس الفلاح في جدة في عام 1323هـ، ثم تلاها في مكة المكرمة في عام 1330هـ.
لا بد أن أذكر هنا أن مدارس الفلاح في مكة المكرمة استعانت بالمدرسة الصولتية، ولا بد من أن نذكر الفضل لأهله لأنهم سبقونا في المدرسة الصولتية بالتأسيس وفي العلم. وبدأ الناس يدرسون في الفلاح في مكة المكرمة، كما هيّأ الله الأسباب من يدرس فيها في جدة، وقد خطّط الحاج محمد علي زينل ألاّ يكتفي بالمراحل الموجودة في المدارس وبالمنهج العلمي الذي يدرَّس فيها؛ ولذا فالمنهج العلمي الذي يُدرَّس في الفلاح هو منهج أقرب ما يكون إلى العلم الشرعي والاهتمام باللغة العربية، ولكن حينما أدركت الفلاح ضرورة إرسال أبنائها والدارسين فيها إلى خارج المملكة، وجدت أن شهادتها غير معترف بها من قبل الجامعات المصرية. وقد بدأ الابتعاث في أيامنا، فأنا سافرت إلى القاهرة في عام 1953م، ولم تُقبل شهادتي. فلذا تم إدخال المنهج العلمي السعودي مع هذا المنهج، فكنّا ندرس جزءاً كبيراً من العلوم الشرعية في المسجد الحرام، من العصر حتى بعد العشاء، وكنا ندرس في المدرسة الحساب والجبر والهندسة والكيمياء والطبيعة، واضطررنا إلى أن نؤدي اختبارنا الثانوي في مدرسة تحفيظ القرآن في مدرسة تحضير البعثات، وكانت هاتان المدرستان الثانويتان الوحيدتين في المملكة، لدرجة كان أبناء المملكة من جميع المدن يأتون إلى مكة المكرمة لأداء الامتحانات. وكانت الدولة قد خصصت لهم مبنى ليقيموا فيه، فأذكر أن خريجي الثانوية العامة في المملكة العربية السعودية عام 1373هـ كانوا ستةً وثلاثين طالباً في القسم العلمي، وكنّا في القسم الأدبي 18 أو 19 طالباً. وبحمد الله نجح جميع طلبة الفلاح في الاختبار، وذهبنا إلى مصر وأكملنا تعليمنا في مختلف العلوم، فمنّا من دخل في مجال التجارة والحقوق والعسكرية.
ولكن قبل ذلك كان الحاج محمد علي يخطط لإرسال البعثات إلى عدة دول. فقرر أن يختار من خريجي الفلاح في ذلك الوقت، ليرسلهم إلى بومباي من أجل دراسة العلوم الشرعية، وفيما بعد دراسة العلوم الاقتصادية، ومن ثم العلوم الإدارية، لقد كانت هذه هي خططه كما سمعت من السيد إسحق عزوز (عليهما رحمة الله). فأرسل بعثة كان من ضمن أفرادها السيد إسحق عزوز، إضافة إلى حوالى 21 شخصاً. وواجهته مشكلة المكان الذي سيقيمون فيه، فقرر أن يسكنهم في منزله، على أن يأكلوا ويشربوا مما يأكل هو وأهله، وهذا شيء عظيم جداً، ,لا ينبع إلا من رجل عظيم مثل الشيخ الحاج محمد علي زينل، ومع تخرج هذه البعثة ألمت بالفلاح ضائقة مالية، فسارع تجار جدة لنجدتها، حتى تكمل مسيرتها، وعندما سمع الملك عبد العزيز بحال المدرسة والتعليم في المملكة، قرّر أن يفرض قرشاً على كل طرد يدخل إلى المملكة، لمصلحة مدارس الفلاح، وهكذا أنقذ الملك عبد العزيز بخطوته هذه التعليم في المملكة، وكان الملك عبد العزيز يقدّر جهود من يسعى في تعليم الشعب، فقدّر الحاج محمد علي تقديراً بالغاً، وكنا نشاهده في مجلسه أحياناً، وكان يُجلسه بجواره.
خطر ببال الناظر في ذلك الوقت أن يوفّر بعض هذا الدخل الذي بدأ يرد إلى المدرسة، وكان بعض الأشخاص قد تبرعوا بأراضٍ للأوقاف. فشاء الله أن تكون الأوقاف خير معين لمدرسة الفلاح أيضاً. كما كان الناس يتطوعون لخدمتها برحابة صدر، فهناك من كان يسمع في القرآن قول الله تعالى: وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ (البقرة: 177) فيسارع إلى التبرع للمدرسة، وأذكر من هؤلاء الشيخ إبراهيم الجفالي. فذات مرة كنت في حفل عشاء في فندق الأنتركوننتال حضره الأمير ماجد بن عبد العزيز. فكان أن جلست إلى جانب الجفالي، وتجاذبنا أطراف الحديث، فحدثته عن الفلاح، وأخبرته أنه تم ضمي إلى مجلس الأمناء، وأن السيد إسحق عزوز يبحث في مكة المكرمة عن أرضٍ واسعة للمدرسة بحيث يكون بمقدور الطلبة أن يلعبوا. فذكّرته أن كلانا تخرّج من الفلاح وأنه لم يكُنْ ثمة فضاء كافٍ لنلعب فيه، بل كانت المدرسة برمتها مجرد فصول وغرف. فأخبرني أن هناك أراضٍ في باله، وذكر لي ملعب إسلام لكرة القدم الذي كانت مساحته تبلغ 24000 متر. بعد ذلك بأيام اتصل بي السيد إسحق في مكتبي في وزارة الحج والأوقاف، وأخبرني أنه يريد لقائي، فخرجت إليه والتقيت بالشيخ إبراهيم الذي اشترى الأرض وأوقفها للفلاح. ولكن عندما سأل رئيس المحكمة الشيخ إبراهيم من يريد ناظراً للمدرسة، ألهمه الله (أي الشيخ إبراهيم) أن قال (السيد إسحق)، علماً أن الناظر كان الشيخ أحمد يوسف- عليه رحمة الله. وهدد أنه إذا لم يقبل السيد إسحق بالنظارة فإنه سيلغي الوقفية، وأذكر أن الأرض كانت واسعة جداً، وكان السيد يخطط أن يبني فيها فصولاً للمرحلة الابتدائية والمتوسطة والثانوية، على أن يكون مبنى كل مرحلة منفصلاً عن الآخر، وأن يكون لكل مبنى ملعبه الخاص. ولكن كانت هناك حاجة إلى الكثير من المال لإنجاز مثل هذا المخطط، ولكن كان في نظارته للمدرسة خير كبير. فكان يقول "غبّروا أرجلكم، وأحضروا إلي المال". فكنّا نسعى ونتصل بالشركات وبالتجار، ونقول لهم "اكتبوا الشيك باسم الناظر السيد إسحق عزوز". وكنت إذا رأيت أحداً من الموسرين في مكة المكرمة، أفاتحه في موضوع التبرع إلى مدرسة الفلاح. وأذكر أنني قابلت الأخ يوسف جميل في المسجد بالقرب من منزلي حيث كنت أصلي. فقلت له إنني قرأت في الصحافة أنه تبرع وإخوانه بمبلغ أربعة ملايين دولار للجامعة الأمريكية في القاهرة. فردّ علي بأنه تبرع للجامعة لأنه درس فيها، فقلت له: "سأريك مدرسة تُدرِّس العِلم مجاناً". وكانت المدرسة قيد التأسيس والبناء، فأخذته إليها، فسارع إلى التبرع بخمسة ملايين دولار، فجزاه الله خيراً. وهكذا بُنيت المدرسة.
بعد وفاة السيد عزوز لم أعيّن أنا ناظراً لهذه المدرسة، وإنما عهدنا بالنظارة إلى الشيخ أحمد رحمة الله عليه. وقد واصل مهمته هؤلاء الرجال الأفذاذ الذين نكرمهم اليوم.
وأذكر مما أخبرني إياه السيد إسحق عن شغف الحاج محمد علي زينل بالعلم، أنه كان بعدما يتخرج الطلبة من الفلاح في المراحل العليا، كان كل أب يتطلّع إلى أن يتوظف ابنه، لقلة الحيلة والمال، ليساعده في مؤونة منزله، فكان الحاج يسأل الوالد عن المبلغ الذي يتوقع أن تعود به الوظيفة عليه، فيقول له أن يرسل ابنه ليتعلم في بومباي، ويعده أن يصله ذلك الراتب. لقد كان رجلاً عظيماً بكل معنى الكلمة. حتى أن زوجته باعت مجوهراتها عندما تعثرت تجارته، واشترت مدرسة الفلاح الموجودة في جدة الآن، طبعاً أدخلت الإدارة الجديدة عليها ترميمات وتحسينات، ولكن كانت هي من اشترتها بمالها.
هذا ما كان من شأن الفلاح، وأما الجمعية الخيرية في مكة المكرمة فلنشأتها شأن هي الأخرى. ولكن قبل أن أسهب في الحديث عنها أود أن أذكر أن الدولة أمرت في عام 1390هـ بنقل الإدارة العامة للزكاة والدخل إلى الرياض، وبذلك أصبح عملي هناك، ولم أتمكن من اصطحاب أهلي وأولادي إلى الرياض، فسكنت في "اليمامة". فنزلت في فندق لدى المستثمر عبد المنعم عقيل، واتفقت معه أن أقيم لديه مقابل ألف ريال في الشهر، على أن يغطي المبلغ مأكلي ومشربي كذلك، وصدف أن سكن بجواري الدكتور عبد الوهاب عبد السلام عطار، فأقمنا كذلك فترة طويلة، ولكنه عُيّن قَبْلي وكيلاً لوزارة الشؤون الاجتماعية، وعُينت أنا من بعده بثلاثة شهور وكيلاً لوزارة شؤون الأوقاف التي كان مركزها مكة المكرمة.
في الحقيقة كانت فكرة إنشاء الجمعية من بنات أفكار الأخ عبد الوهاب عطار، وهو أحق أن يكرم هذه الليلة، فله الفضل بعد الله في تأسيس الجمعية الخيرية في مكة المكرمة. فقد اتصل بي ذات يوم وأخبرني أن الوزارة تعطي مبالغ إعانة للجمعيات الخيرية، وأنه لا يوجد في مكة المكرمة جمعيات خيرية. فقلت له أنه يوجد "صندوق البر"، وقد أسّسه جماعة من وجهاء أهل مكة المكرمة، أذكر منهم الشيخ أحمد صالح جمال، وأحمد محمد جمال، وعبد الله عريف، عبد الرزاق بليلة. فأخبرني أن الدولة لا تقدم الإعانات إلى الصناديق، فالصندوق لا ينطوي على فكرة المؤسسات الدائمة، وهو ينتهي عادة بموت القائمين عليه، والمطلوب هو إنشاء جمعيات، أي جمعية عمومية تنتخب مجلس إدارة لها، ويكون لها صفة استمرار العمل المؤسسي، فاتصلت بالقائمين على الصندوق كل على حدا. فامتنعوا عن تحويل الصندوق إلى ما يشبه المؤسسة، بحجة أن عملهم يتضمن أسرار الناس التي لا يمكن البوح بها، فطلبت منهم تحويل الصندوق إلى جمعية خيرية، وأن ذلك لا يتعارض مع الحفاظ على أسرار الناس.
في الحقيقة الفكرة كانت فكرة عبد الوهاب، ولم تكن فكرتي أنا، فقد عشت فترة طويلة في جدة، ثم انتقلت إلى الرياض، ومن ثم رجعت إلى مكة المكرمة، ما يعني أني غبت عن مكة المكرمة فترة طويلة جداً. فطلب مني عبد الوهاب أن أبدأ أنا في التفكير في تأسيس جمعية خيرية، وبادر بإرسال القانون الصادر من مجلس الوزراء الخاص بالجمعيات الخيرية، فدرسته جيداً، ووجهت الدعوة، حتى إلى الإخوان القائمين على صندوق البر، فحضر الجميع إلى منزلي، وناقشنا الفكرة وأهدافها، وأسسنا الجمعية الخيرية سوية في تلك الليلة. وأذكر أن الأخ فيصل بدر -وهو من المؤسسين– طلب أن تتضمن أهداف الجمعية الإسكان الخيري، فرددت عليه أن الإسكان مكلف فالأراضي وتكلفة البناء باهظة الثمن، وأننا لا نتمتع بإمكانيات تسمح لنا بذلك، فأصرّ أن أجعل ذلك من ضمن الأهداف، وتبرع من فوره بقطعة أرض له في شارع الستين تبلغ مساحتها عشرة آلاف متر مربع.
استطعنا أن نرصد لهذا المشروع في الجمعية الخيرية مبلغ 20 مليون ريال. فقد كانت التبرعات في البداية تصل إلى ستة أو سبعة ملايين ريال، وكان أهل الخير يسارعون إلى الاتصال بي ويطلبون مني أحجز لهم عمارة، وأذكر أن الأمير ماجد بن عبد العزيز –رحمه الله– كان مهتماً بالإسكان، ففي ليلة من ليالي رمضان المباركة اتصل بي الأمير ماجد بمنزلي وأخبرني أنه أحضر معه خمسة ملايين ريال من الملك خالد وأربعة ملايين من الأمير فهد ولي العهد، رحمهم الله أجمعين.
ولكن هذه التجربة لم تكن ناجحة كما شاء صاحب الفكرة وتسببت لنا بمشاكل لا حصر لها، وفي الحقيقة سررنا في البداية وعملنا بحماس لإنجاز الفكرة رغم اعتراض بعض الحاضرين من المؤسسين، فكان جوابي آنذاك أن الله يُيَسِّر الأرض فلا بد أن ييسر الباقي. وبدأنا بفضل الله، وتيسر لنا شيء من المال، فاتفقت مع مكتب هندسي خطط لبناء 16 عمارة على قطعة الأرض، وكانت كل عمارة تتكوّن من ثماني شقق، وتراوح عدد الغرف في كل شقة ما بين أربع غرف وثلاث غرف وغرفتين، ليكون سكناً مريحاً لمن سيسكن فيها. ووضع مجلس الإدارة في الجمعية شروط الإسكان، وطلبنا من وزارة الشؤون الاجتماعية أن تبحث الحالات التي تقدمت بطلب للسكن، المهم تم إسكان من يستحق ومن لا يستحق! ولذا لا أنصح ببناء مساكن خيرية جماعية، فقد كان في هذا المجمع حوالى 170 شقة. وحصلت مشاكل اجتماعية جمّة لا يمكن تصورها، وتفاقمت مما استوجب تدخل الإمارة ووزارة الشؤون الاجتماعية اللتين أشارتا علينا بوجوب إخلاء السكان للمجمع، على أن تؤجر الشقق، ويعطى ريعها مساعدات إسكان للمستحقين بجوار أهاليهم، ونفذنا ما طُلب منا.
على الرغم من ذلك، لا نزال نُسكن في الجمعية الخيرية قليلاً من الأرامل ممن لديهن أطفال صغار، إذ إن معظم المشاكل كانت من الشباب الذين لا يترددون إلى المدارس ولا يحرصون على تلقي العلم، خلاصة القول أننا قمنا بتأجير الشقق، بناءً على توجيهات من وزارة الشؤون الاجتماعية في موسم الحج، ونجحنا في هذا المسعى.
أما على صعيد الخدمات فقد أنشأنا مستوصفاً خيرياً يقدم خدماته بالمجان. فقد تبرع لنا أحد الإخوان، وهو الأخ عبد الله طه بخش -رحمه الله- بـ 12 ماكينة لغسيل الكُلَى. وبناء على طلبي تكفل بدفع بدل الغسيل الذي تبلغ تكلفة الغسلة الواحدة منه 350 ريالاً سعودياً، وعمل وقفاً بذلك، وكان يرسل كل سنة مليون ريال، وبعد وفاته واصل ابنه بإرسال هذا المبلغ إلى الجمعية، فجزاه الله خيراً. وقد وصل عدد ماكينات غسيل الكلى الآن إلى 28 ماكينة، ونحن نعمل بشفافية، فلدينا تقرير سنوي لغاية عام 1432هـ يوضح فيه عدد جلسات غسيل الكلى، وهو متوفر لمن يرغب في الاطلاع عليه، ونفكر حالياً في فتح نوبة (وردية) ثالثة لغسيل الكُلَى!
نفكر في الجمعية أيضاً في النواحي الصحية طبعاً، فقد شكّل مجلس الإدارة لجاناً للمساعدات الشهرية، ولجاناً للمساعدات السكنية، ولجاناً للأمور الصحية، فكان أن لفت انتباهي أحد الأخوة من أهل مكة المكرمة ممن يقيمون في الرياض -وهو أحمد نور عيد وكان زميلاً لي في الدراسة- إلى مشكلة عاهة السمع والنطق التي بدأت تنتشر في مكة المكرمة بأعداد كبيرة. وطلب مني البحث عن حل لهذه المشكلة في جدة. فبحثت هناك حتى توصلت إلى جمعية في هذا المجال أسستها سيدة فاضلة من آل زينل، وهي السيدة سلطانة بنت محمد رضا، ولم أدرِ كيف أصل إليها، فكلّمت العم ليصلني بها، وتمكن من القيام بذلك، فذهبت إليها بمعية مجلس الإدارة لمقابلتها، وكانت سيدة فاضلة بمعنى الكلمة، وكانت قد أحضرت خبراء.. هي كانت بالأساس في أمريكا، واتصلت بالجمعية الأمريكية للسمع والنطق، وأخذت منهم جميع المواصفات والمعلومات لتأسيس مركز سمع ونطق، فثمة شروط خاصة لبناء مركز لذوي هذه الاحتياجات لا بد من استيفائها، كما للعلاج أجهزة خاصة، وهي مكلفة جداً، فاستثقلنا الأمر، فسألتها لماذا تدفعنا لتأسيس مركز في مكة المكرمة في حين أننا قريبون منها. فقالت أنها أخذت على عاتقها معالجة من يرغب من ذوي هذه العاهة من أهل جدة ومكة المكرمة والطائف والمدينة.
لم يكن لدى هذه السيدة جمعية خيرية، علماً أن الجلسة الواحدة تكلّف 500 ريال، وأخبرتنا أنها تعلم من تجاربها وعلمها أنه إذا ما كان في بيت إعاقة، فهذا يعني وجود إعاقتين أخريين أو ثلاث إعاقات أخريات. فلنتخيل أن تكلفة العلاج في الأسبوع الواحد ستكون ألف وخمسمئة ريال، فسألتها عمّا تفعله وكيف توفر تكلفة العلاج. فقالت لي إنه إذا أتى إليها رجل معدم، فإنه يستفيد من سلة خير أنشأتها لهذا الغرض، كما أن العم أحمد يوسف زينل يجمع لها من الموسرين زكاتهم، كما أن زوجها رجل زاهد يجمع لها المال من أهل الخير، حتى أنها تمكنت من شراء حافلة ترسلها إلى بيوت المرضى ليحضرهم إلى المركز.
لقد استفدنا للغاية من هذه المرأة الفاضلة، فقد علّمتنا ووجّهتنا، حتى تمكّنا من بناء المركز، والآن من سرّه أن يرى قسم التخاطب لدينا، فثمة أولاد لم يكن بإمكانهم الحديث، قد أصبحوا يتكلّمون ويتخاطبون بفصاحة تامة، وقد سرنا هذا جداً، ولكن ليس بمقدورنا تغطية نفقات المركز، ولا حتى ثلث النفقات، ولذا فالمركز لا يقدم خدماته بالمجان. علماً أنه يوجد مركزان في جدة، وهناك مركز في الدمام، وجميع هذه المراكز تتقاضى بدل أتعابها، ولكننا قررنا أن يكون بدل العلاج لدينا أقل ممّا تطلبه هذه المراكز، ولكن إذا أتى شخص معوز إلى المركز، فسيقوم حينها مدير مركز السمع –بناء على أوامرنا– بإخطار الإدارة العامة، وبعد أن يقوم قسم الباحثين والباحثات الذي أسسناه بالتحري عن الشخص، فإذا اتضح فقر المريض، تسدد الجمعية عن المريض 70% من تكلفة العلاج، وقد نجحنا في مسعانا هذا.
وكان أن استثمرت الجمعية في الأسهم فدرّت علينا مبالغ طائلة، ولكن ذلك لم يتم من دون حدوث مشاكل، فقد رفض مجلس الإدارة في البداية أن نعهد بأموال الجمعية ـ بناء على نصيحة صديق لي يدعى محمد أنعم ـ إلى مستثمر في الرياض مقابل نسبة معينة، بدلاً من إيداعها في البنك، ووافق المجلس على الفكرة التي تبنيتها بعد أن قطعت عهداً بإعادة العشرين مليون ريال التي سنودعها لدى المستثمر في حال حصلت أي عملية احتيال (لم يكن في ذلك الوقت أي قيود على الجمعيات في الاستثمار). وأعاد إلينا المستثمر مبلغ العشرين مليون بعد خمس سنوات مضاعفة، ثمانين مليون، مع محفظة أسهم، ولم يكن لدي أي فكرة عن الاستثمار بالأسهم، فأرشدني إلى الطريقة، وفي تلك السنوات أصيب الناس بحمى الاستثمار بالأسهم. بل أقول جنون، فقد تضاعفت العشرين مليون إلى 360 مليون ريال، إنه أمر لا يصدق، فأعدنا أربعين مليون إلى الجمعية، أي ضعف المبلغ الذي تبرع به الناس لنا. وأبقينا ما تبقى في استثمار الأسهم، ولكن لم ينبهنا المستثمر ولم يدرِ أحد من أعضاء مجلس الإدارة عما يجري في سوق الأسهم، التي انهارت قيمته، وبذلك لم يتبقَ لدينا سوى مبلغ 160-170 مليون ريال، ولكنها بقيت مصدر إيراد جيد للجمعية، تدر علينا أرباحاً تبلغ 7-8 مليون.
بعد توفر هذا المبلغ الكبير فكرنا في الجمعية بإنشاء مستشفى متكامل على غرار مركز السمع، واتبعنا ذات السياسة، وهي أنه في حالة عسر المريض تدفع عنه الجمعية 70% من تكلفة العلاج، فتعاقدنا مع شركة استشارية وصممنا المستشفى، وأرسلنا التصميم إلى وزارة الصحة التي أدخل المسؤولون فيها بعض التعديلات، ومنحونا الموافقة على إنشائها، ومن بعد ذلك أخذنا موافقة أمانة العاصمة، وقمنا بخطوات كبيرة جداً حين أصدر الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ شفاه الله وعافاه وأمده بالصحة والعافية ـ أمراً إلى وزارة المالية بمنح المستشفيات الأهلية قرضاً بمئتيْ مليون ريال بدلاً من مئة مليون ريال. وكانت قطعة الأرض التي تبلغ مساحتها خمسة آلاف متر كلفتنا تسعة ملايين ريال. واشتملت المستشفى على مئة وخمسين سريراً بأحدث المواصفات العالمية. ولكن جاءتنا بعد فترة فكرة إدخال النظام الأمريكي "جي سي آي"، وأدخلناه بمبالغ إضافية، وإن شاء الله نترجم هذه المواصفات ونرسلها إلى وزارة المالية، ومن ثم نقدمها إلى وزارة الصحة. وسنبدأ بإذن الله في التنفيذ، ونسأل الله العون والمدد.
هذا ما لديّ عن الجمعية الخيرية، ومن الممكن أن أكون قد نسيت شيئاً، ولكنني أخشى أن يقول لي الأخ الكريم عبد المقصود أن وقتي قد انتهى، وأنه عليّ فتح المجال للنقاش والحوار. فأشكركم وأشكر الأخ عبد المقصود على إتاحة الفرصة هذه للتحدث عن عمل من أعمال البر وعن أشخاص خدموا العلم خدمة جليلة، وبنوا الصروح التي لا تزال شامخة في المملكة.
وأود أن أختتم حديثي بسرد هذه الواقعة على مسامعكم، فأذكر أنني عندما انضممت إلى مجلس أمناء الفلاح، كانت ميزانية الفلاح تعاني من نقصن فاقترحت على المجلس أن نأخذ من كل طالب ألف ريال، فهاج عليّ أعضاء المجلس، وكان الرأي أن مدارس الفلاح مثل الهواء، يتعلم الناس فيها بالمجان. وكما أن الماء والهواء بالمجان، فكذلك تلقي العلم في الفلاح، فبادرت إلى سحب كلامي، والحمد لله أن الفلاح لا تزال تؤدي دورها مجاناً، وكما أشار الأخ عبد العزيز سرحان فقد وصلت الفلاح إلى مستويات علمية كبيرة جداً، وقد وضع مجلس الأمناء شروطاً للقبول على أن لا يتجاوز الفصل عدداً معيناً من الطلاب، وكان عندما طبقنا هذه السياسة ظن مدير الفلاح في مكة المكرمة صالح فريمبان –رحمه الله– أنه بمقدوره أن يصدر قراراً، كما تفعل الحكومة، ويتجاوز الأمر. فلما جاء العم أحمد من إجازته وجد أن الأخ صالح تجاوز بحوال 121 طالب، فقال له: "إما تفصلهم أو أفصلك.. أمر من أمرين". وهذه هي السياسة المتبعة، ولا يمكن القبول بواسطة، فإذا ما اضطرنا شخص لقبول ابنه، فأنا أكتب إلى مدير المدرسة على سبيل المثال "يا دكتور عبد العزيز.. أو يا فلان.. رجاء أن تقبلوا الطالب الفلاني".. ولكن هيهات أن يقبل المدير، فهو يعرف السياسة ويتبعها فحتى أحفادي، أولاد ولدايَ خالد: أحمد ومهند، أرسلتهما إلى المدرسة للقبول في سنة أولى ابتدائي، فقيل لي أنه لا يوجد مكان لهما!! ولم ينفعهما أن جدهما عضو في مجلس أمناء الفلاح، فما كان علينا إلا أن أدخلناهما في مدرسة أخرى، حتى جاء دورهم فتم قبولهما. وشكراً جزيلاً.
الشيخ عبد المقصود خوجه: أود أن أقول شيئاً، وهو أن سعادة الأخ أمين عقيل عطاس كان الساعد الأيمن للوالد بعد وفاة السيد إسحق عزوز. وما أذكره هو أن الوالد كان يتصل به وأن السيد أمين كان يبادر إلى الاتصال بالوالد، حتى يلتقيا ويتبادلا وجهات النظر بشأن تطوير موضوع الفلاح. فكان أن ارتأينا في مرض الوالد أن يكون سعادة السيد الأمين هو ناظر الفلاح مستقبلاً، فرفض وكررت.. ورفض وكررت.. ورفض وكررت.. فقال لا تكون النظارة إلا في عهدة أحد من آل زينل. ولما وقعت المشورة على اختياري، اشترطت أن يكون لي مثل ما كان لوالدي، أي الساعد الأيمن، فندعو الله أن لا يخيب أملكم في هذه المدارس، كما أثني على الذين عملوا فيها، بدءاً بمؤسسها الحاج محمد علي زينل، وآخرين منهم المرحوم حمزة عجاج، والمرحوم محمد محمود علي زاهد، فضلاً عن العم محمد رضا، والعم علي رضا، ممن أوقفوا عليها أوقافاً، وعلى الرغم من ذلك أعتبر ان أهم وقف صار هو وقف من أستاذ كان يُعتبر بخيلاً، فكان يجمع جميع مرتباته على مدى أربعين أو خمسين سنة من المدرسة، ولا ينفق منها على نفسه ولا على ثيابه، وترك في النهاية وصية تنص على أن توقف جميع هذه الأموال للفلاح. وهذا ما شجعني أن أخدم الفلاح، فكما قام آخرون بمنح الكثير فلا بد لشخص درس في هذه المدارس أن يكون مثلهم أو أحسن منهم.
السيد أمين عقيل عطاس: أود أن أضيف أمراً واحداً، وهو أنني عندما توليت مسؤولية العمارات في مكة المكرمة، بحثت في الأراضي، فوجدت قطعة أرض في حارة الباب، بالقرب من الحرم، كانت مساحتها ألفين ومئتي متر. فاتصلت بمكتب خوشك الهندسي في مكة المكرمة، وطلبت منه أن يعمل لي رخصة للبناء. وكانت تكلفة البناء الذي يتكون من أحد عشر طابقاً أربعة عشر مليون ريال، فاتصلت بعم أحمد وطلبت منه قرضاً بالمبلغ كاملاً من البيت التجاري. فسألني عن الهدف فقلت له إنه للفلاح. ووعدته بعد سؤاله لي أن أرد إليه المبلغ بعد أربع سنوات. وبالفعل جملنا الله سبحانه وتعالى مع عم أحمد، وأعدت إليه المال في غضون أربع سنوات. وقد عادت علينا هذه العمارة بسبب توسعة الحرم بأكثر من مئة مليون ريال، والحمد لله.
أما الأمر الآخر الذي أود ذكره هو أني لم أرأس الجمعية الخيرية منذ تأسيسها، ولكن كان أول رئيس لها هو معالي الدكتور حامد هرساني، ولكنه لم يستمر في هذا المنصب، وأصبحت أنا من بعده رئيساً باختيار الناس.. وشكراً لكم.
عريف الحفل: شكراً.. لا يمكن للمرء أن يمل من سماع الحديث في هذه الذكريات المضيئة والجميلة، ولكن سيف الوقت يشير إلينا بأن نتوقف عند حد معين، فجُزيتم خيراً على كل ما قمتم به، وما زلتم، أطال الله في أعماركم ذخرا لهذا الوطن وأبنائه. وأدعو لسعادة الأستاذ أمين عقيل وسعادة الأستاذ خالد زينل أيضاً بأن يطيل الله عمريكما، ولكما الأجر والمثوبة إن شاء الله.
 
طباعة
 القراءات :279  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 53 من 163
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الجمعية النسائية الخيرية الأولى بجدة

أول جمعية سجلت بوزارة الشئون الاجتماعية، ظلت تعمل لأكثر من نصف قرن في العمل الخيري التطوعي،في مجالات رعاية الطفولة والأمومة، والرعاية الصحية، وتأهيل المرأة وغيرها من أوجه الخير.