شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
((كلمة الدكتور حمود أبو طالب))
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه. الإخوة والأخوات حضور هذا المساء البهيج، السلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
في البدء كم يشعر المرء بالسعادة وهو يرى فضيلة الوفاء ما زالت تنبض، وشيمة التقدير ما زالت تتنفس في زمن التجاهل والنكران، كم يشعر المرء بالغبطة حين يرى أن مجتمعه لم تنقرض فيه مروءة الإنصاف بأن يقال للمحسن أحسنت وللمبدع أبدعت، وما هذا المحفل الاثنيني إلا نموذج ساطع لتجسيد هذه الخصال النبيلة حين آلى منذ زمن بعيد أن يكون حاضناً لها ومحتفياً بها يقدمها لمن يستحقها في كل علم وفن بحياد ونزاهة وتجرد، فالشكر كل الشكر للاثنينية التي أصبحت مَعْلَماً وطنياً بارزاً ولصاحبها ومؤسسها الذي يصر على استمرارها منصة لتكريم كل جدير بالتكريم نيابة عن المجتمع والوطن. أيها الجمع الكريم هأنذا في ورطة أخرى يضعني فيها حبيبنا الشيخ عبد المقصود خوجه وهو يحسن الظن بي ويطلب مني أن أقدم علماً من الأعلام وللإمعان في توريطي فإنه يختار من الأعلام الذين كنت وما زلت وسأظل تلميذاً لهم سواء في تخصصي ومهنتي أو في المجالات الأخرى التي تطفلت عليها وأقحمت نفسي فيها لا شك أنه يدرك صعوبة الموقف وحرجه، لكنه كمن يحرص على ترسيخ صورة حقيقية للوفاء بالجمع بين طرفيه: الأستاذ والتلميذ، حتى لو تلعثم واضطرب وارتبك التلميذ في حضرة الأستاذ سامحك الله يا شيخنا رغم أنك كرمتني تكريماً كبيراً هذا المساء وأنا أشرف بتقديم المحتفى به.
الإخوة والأخوات، كان صيف الرياض حارقاً عندما دلفت بوابة مستشفى الملك فيصل التخصصي عام ستة وثمانين وتسعمائة وألف لمباشرة عملي كطبيب مبتدئ في طب الأطفال خارجاً للتو من ذات الكلية التي تخرج منها نجمنا هذه الليلة.. بدأت دورة العمل وبدأت محاولتي للتعرف إلى الوجوه التي تعمل في هذا المكان العجيب الذي لا ترى فيه سحنة الوطن إلاّ نادراً. الأطفال متعبون بأعقد الأمراض يأتون من كل مناطق الوطن وأشدهم تعباً أولئك الذين يصلون المستشفى وهم يلهثون لخطف نسمة من الأوكسجين إلى رئاتهم المنهكة بسبب اعتلال قلوبهم الغضة التي لم يدخل بعضها بوابة الدنيا إلا قبل يوم أو يومين ولم تنبض إلا بالتعب، أجساد ضئيلة تكسوها الزرقة وينهشها الجفاف ويحوم فوقها شبح الموت.. كنت وزملائي نتشارك المسؤولية في استقبالهم واستقرار حالتهم ريثما يأتي أطباء القلوب وحين يأتون يبدون كلهم غرباء الملامح إلا واحداً فيه لون الوطن وملامح الوطن لا يتحدث كثيراً لكنه يستمع طويلاً وجيداً وبعد الاستماع يتبين لنا أنه صاحب القرار في ما يجب أن يتم، ثم يكتب في ملف المريض باختصار شديد واضح وصارم: أولاً ثانياً ثالثاً، ويوماً بعد آخر ولأنني طبيب مبتدئ يقضي جل وقته في المستشفى احترت في أمر هذا الطبيب الذي أراه ليلاً ونهاراً متى ينام متى يصحو وكيف يكون حضوره دائماً قبل الكل لا يتهندم كما يفعل الآخرون ولا يحرص على أناقته في اللقاء الصباحي.. البدلة الخضراء لطاقم غرفة العمليات وفوقها رداء الطب الأبيض هي الأناقة التي كان يرتديها لأنه كان أنيقاً بعلمه لا بردائه وزيه. يمشي في الردهات صامتاً ولخطوته وقع وإيقاع عرفتها وحفظتها جيداً.. كانت كل خطوة يخطوها تهدف إلى إنقاذ حياة من سطوة المرض مستعيناً بالله وبعلمه وعزيمته ومهارته. ذات صباح مبكر وفيما كنت مكلفاً بمناوبة اتصلت بي ممرضة العناية المركزة لمعاينة طفل لم يتجاوز عمره أسبوعاً لقراءة نتيجة فحص غازات الدم بعد عملية القلب التي خضع لها في اليوم السابق، وحين وصلت وجدته قد وصل قبلي؛ لم أكن متأخراً لكنه كان السبّاق كعادته. وذات يوم بعد أن اشتد عودي قليلاً قرر أن يأخذ طفلاً إلى غرفة العمليات فور وصوله المستشفى، فقلت له: ماذا لو سمحت لي بالدخول معك؟ قال: ولم لا؟ هناك شاهدت عالماً آخر، لا يستوعبه إلاّ الذي شاهده قلوب: يتم توقيفها ثم يطلق سراحها في لحظة ترقب رهيبة وحين تنبض مرة أخرى لا توجد غير لغة العيون لتعبر عن الفرح بالنجاح.. شرايين في الاتجاه الخطأ تضخ دماً مؤكسداً ولا بد من إعادتها إلى خط السير الطبيعي.. أوردة متداخلة ترسم خريطة طريق إلى الموت لا بد من تصحيح مسارها كي تؤدي إلى محطة الحياة.. كل التقنيات موجودة لكنها أنامل العلم التي تربطها وتسخرها باحتراف كي تخرج القلوب من غرفة العمليات بلون الورد والأمل. ليتكم شاهدتم ما شاهدته لتتأكدوا من أنني لا أبالغ إذا قلت إن الدكتور زهير الهليس لم يكن يحمل مبضع الجراح وإنما كان يعزف سيمفونية الطب، وكان المايسترو الذي لا يقبل أي نشاز في نغمة القلب... أيها الحضور الجميل اسمحوا لي أن أتحاشى سرد أرقام عن إنجازات إنسان أضخم منها لأنه هو الذي أنجزها ولن أستعيد ما قاله وأكده بأنه رفض كل الإغراءات كي يعمل خارج وطنه لأنه ها هو ماثل بيننا ولا يزال في وطنه، كما لا بد أن أتحاشى خطيئة الظن أن وطني قد تصحر من مشاعره النبيلة تجاه من يليق بهم ويليقون به لأن هذا الاحتفاء يأتي بعد أن علق رمز الوطن وساماً عزيزاً على القلب الذي عالج القلوب.. عفواً أستاذي ربما لا أكون التلميذ الذي تمنيته لكنني أؤكد لك أنني التلميذ الذي يعتز ويفخر بأنه تلميذك، ربما تأخر المجتمع المشغول بهموم كثيرة عن الالتفات إلى قامتك لكنه ماثل هذا المساء كي يؤكد لك أنك في القلوب يا فقيه القلوب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عريف الحفل: شكراً لسعادة الدكتور حمود أبو طالب الطبيب والكاتب الصحفي وقد سرد لنا قصة إبداع مَن يكرم بيننا الليلة. الكلمة الأخرى لسعادة الدكتور عمر الرضوان الذي قدم من الرياض مع ضيفنا الكريم خصيصاً للمشاركة بالاحتفاء به بيننا الليلة. الدكتور عمر تفضل.
 
طباعة
 القراءات :364  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 42 من 163
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج