شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مُقدمة
بقلم الدكتور إبراهيم محمد العواجي
كانت مهمتي ممتعة بقدر ما تحلق الكلمة مختالة في قصائد هذا الديوان، وشاقة بقدر ما تقتضيه محاولة الإبحار في زحمة الأحاسيس الضاربة في أعماق الوعي في سطورها.. وبقدر ما كان تكريماً لشاعر ناشىء أن يقدم ديوان عملاق من عمالقة شعرنا العربي المعاصر، بقدر ما كان تحدياً لأدوات الاستيعاب لديّ وهي أدوات مبتدئة قياساً إلى المرحلة التي توصلت إليها قصائد شاعرنا، إذ كيف لي وأنا لا زلت أتسلق سلم القصيدة وجدرانها بحثاً عن هوية مميزة، أن أخترق عالم حسين سرحان ذلك العالم الملون البهيج الذي ترقص فيه الكلمات مزؤورة من فرط البداهة البليغة والتجسيد المبدع للمشاعر المتقدمة المتفاعلة مع ما حولها ضمن إطار فريد من الأصالة والتجديد قل أن يوجد في غير شعره.
لم أكن أدري وأنا ألهث خلف السطور ما إذا كنت أمارس دور التلميذ أم القارىء أم الناقد.. لذلك قررت أن أعود لقراءة أعمال السرحان الأولى المنشورة في ديوانيه "الطائر الغريب" و "أجنحة بلا ريش" لعلني أكتشف ملامح جديدة تميز هذا الديوان أو أستدل على تطور لمنهجه أو لفنه أو موقفه من العشق والأرض والأخلاق، كنت أحلم بالحصول على براءة اختراع ثمناً لاكتشاف تبدل في خصائص قصيدته.. فاستقبلتني أبيات من قصيدته التي أحسب أنها بعنوان "أعاذلتي":
تأمل فكم ثوب يقوم بلا فتى
وكم غصن بان صار سيفاً مهندا
أنا الكأس والساقي، أنا الهم والهوى
أنا الطير أغضى مرة ثم غردا
وكانت مواجهة حاسمة لم تمهلني كثيراً حتى أدركت أن حسين سرحان هو أحد رموز الإصرار والتواصل، وأن ما قد يبدو للمراقب غفوة ليست إلا استراحة سرعان ما تعود لتفرد كما بدأت.. لا تعرف الاستسلام أو الانبهار أو التراجع.. ليس للتحولات الأخلاقية والمادية التي حدثت خلال سيرته الحياتية دخل بموقفه المبدئي من الحياة.. شعره لا يعترف بالزمن فهو تراثي الأبعاد متجدد الرواء تجتمع في روحه عملية اختصار مسافات القصيدة العربية من إبداع الجاهلية حتى زمن احتضارها في معركة البقاء في وجه التغيير النفسي والمادي أو ما يمكن أن نسميه أزمة المواكبة والجديد.
أغدو مع الناس لأني أعايشهم
ولست أسخر/لكن يسخر القدر
ورب نائبة في إثر نائبة
تلقي الكلاكل عندي ثم تنتظر
وهو يتلذذ بالتحدي بإباء وإصرار ولا يقبل الوضيع من الصعاب.
وينقصني -والله أعلم أنني...
أحب الرزايا فاخرات المتاعب
في شعر حسين سرحان عناق وشموخ متميز دائم بين إباء الصحراء وصفاتها وعفّتها مع ما توحي به الحياة الحضرية من تلوّن في الصورة وسيريالية في المعنى قصيدته وحدة أريج الخزامى مع مستحضرات العطار في المدينة تتعامل أبياته مع الأصالة كقاعدة ثابتة لا تكترث بما يطرأ من اهتزازات طارئة على القيم، فتظل نقطة ارتكاز تدور من حولها المتغيرات بأشكالها المتعددة المتغيرة، ترسم فوق جبين الشعر وشماً فريداً تختصر عبارات فرسان القصيدة العربية وحداتها على امتداد مسيرتها وانحناءات دروبها.
لقد عرفت ساحة الشعر العربي المعاصر عمالقة احتلوا مكانتهم في ذاكرة القصيدة، من خلال ما قدموه من إبداعات مزامنة لمراحل وظروف وطبيعة الأغراض الشعرية المتجددة التي رافقتهم أو رافقوها.. غير أن حسين سرحان، وهو عملاق في ساحة الشعر، لم يلق ما يستحقه من اهتمام أو دراسة أو نقد لأسباب كثيرة منها ما يتعلق بطبيعته ورغبته في الابتعاد عن الأضواء، ومنها ما يتعلق بموقف المهتمين بقضايا الشعر الذين يقعون بين مشغول بالركض خلف الأسماء اللامعة أو التسلق على الجدران المظهرية الملونة، لاعتبارات لا تمت لقضية الشعراء والأدب بصلة وبين فئة أبعدها انهماكها بمشاغل الدنيا إما محاولة لكسب القوت وإما لجمع الثراء.
وإلا فإن في شعره أصالة مميزة تمثل التواصل بين مراحل الشعر العربي؛ قديمه وحديثه.. بل هو تجسيد مبدع للتراث بلغة سلسة، جذابة، عميقة؛ بل هو خير ما يمكن أن يوصف بالسهل الممتنع.. الإبداع ليس بالضرورة الاستحداث في شكل القصيدة إلى أن تصبح شيئاً جديداً لا صلة له بالخصائص الرئيسية للقصيدة العربية؛ فهذا تشويه مقصود أو غير مقصود لها.. ولكن الإبداع كما تجسده قصائد السرحان هو استحضار مواقف وحكم وألوان القصيدة العربية الأصيلة وإخراجها بثوب ولغة مألوفة تناسب مفاهيم العصر وفكره.
الشعر لدى السرحان حدث تلقائي.. لا يخضع للضوابط والتخطيط.. إبداع حقيقي أو كما عبّر عنه ".. تواجد انفعالي يحدث في النفس يهزها ويقلقها حتى يلفظه التعبير متنفساً به أو عنه.. الشعر مشتق من الشعور بكل ما يقع في أغوار النفس وآواجها أو كل ما يتغلغل إلى الأرواح والأذهان فيتسامى بها أو يسف ويسعدها أو يشقيها". هكذا، تمر خاطرة عابرة، يثور شجن تتفاعل فكرة، تهيج عاطفة أو يقتحم عليه حدث فتولد القصيدة.. يرسمها على الورق زفرات تتسابق مع أنفاسه ثم يدسها بين أكوام الخواطر.. لا يعود إليها مرة ثانية.. فالقصيدة لديه انتفاضة نفسية لا تستأذن في الدخول إلى محرابه ولا تخضع لإرادة أحد أو شيء ما حتى عقله.. وهو في هذا يتميز عن كثير من مشاهير شعراء النظم ومنهم من احتل مكانة رفيعة في نفوس محبي الشعر.. والمنظومة الشعرية قد ترقى إلى مستوى مرموق من حيث إنها عمل فني بما تحويه من صور جميلة ومعانٍ جزيلة ولكنها تظل شيئاً آخر غير القصيدة التلقائية كالتي يكتبها حسين سرحان ومن هم على شاكلته من مبدعي الشعر.
كل من يقرأ شعر السرحان يدرك مدى التوافق التام بين مواقفه الأخلاقية وقصائده، التزام يلازمها غزلية كانت أم تأملية. كلها تقع خارج دائرة الزمن المادي وكثيراً ما تساءل محبوه هل إن انكفاء شاعرنا الكبير خارج دائرة الظروف والأضواء العامة، سبب صمود التزامه أو أن التزامه هو سبب عزوفه وانعزاله النسبي عن الضجيج خارج أسوار منزله أو دائرة تفكيره؟.. ومهما كانت الإجابة فإن القارىء لدواوينه وهذا هو آخرها يجد عفوية التلاحم بين قصائده مهما اختلفت أغراضها ومواقفه الذاتية من الحياة.
حسين سرحان شاعر طبيعي تخرج القصيدة من قلمه عذبة صافية صادقة قوية تفرض على القارىء استذكار كل ما قرأه في ديوان العرب.
بقلم/الدكتور إبراهيم محمد العواجي
وكيل وزارة الداخلية
 
طباعة

تعليق

 القراءات :666  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 162 من 288
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعد عبد العزيز مصلوح

أحد علماء الأسلوب الإحصائي اللغوي ، وأحد أعلام الدراسات اللسانية، وأحد أعمدة الترجمة في المنطقة العربية، وأحد الأكاديميين، الذين زاوجوا بين الشعر، والبحث، واللغة، له أكثر من 30 مؤلفا في اللسانيات والترجمة، والنقد الأدبي، واللغة، قادم خصيصا من الكويت الشقيق.