نفسية جديدة لجيل جديد
(1)
|
خلاصة رسالة من عبد الغني قستي
(2)
مؤداها أنه كان إذا قال أبان، وإذا شعر -وهو شاعر- ذللت له القوافي ولانت الأوزان، وكان يقبل على القراءة أخضر القلب مفتوح النفس شديد الشوق، فلا يملها ولا ينصرف عنها، وقد مني بأضداد كل ما سبق ذكره، فأصبح عييّاً خجولاً، وشمس عليه قياد الشعر واجتوت نفسه القراءة حتى ما يكاد يمضي فيها دقائق معدودات حتى يترك الكتاب ملالاً وبرماً، وهو يسألني -ولقد سأل غير خبير- عن العلة في ذلك.. ويلح في الإجابة. |
هذا سؤاله، فلأتحدث قليلاً، ولعله يعرف الجواب -ضمناً- من هذا الحديث الذي قد لا يتصل بسؤاله في ما يتبادر إلى ذهن القارئ السريع. |
أتيح لي مرات وكرات بلا قصد مني أن أتصل بفئات من شباب هذا الجيل من موظفين وغير موظفين فلم أشهد فيهم خلة تمدح أو تستطاب -مع الاستثناء- إلا "الرقة" التي تكاد تحيلهم إلى فراش يتهافت. |
لقد ثقفوا عبارات "الأدب الاجتماعي" في مناسباتها؛ فليس فيهم من يصعب عليه أن يقول لك وأنت تحلق: "نعيماً"، وعندما تشرب: "هنيئاً"، و "من فضلك" إذا أراد شيئاً، و "شكراً" إذا أسديت إليه يداً، و "العفو" إذا أطريته.. و "أوحشتنا" بعد غياب يطول أو يقصر! |
وقد يكون عند بعضهم استعداد خفي، وموهبة مكنونة وطبع أصيل لو تسنى له أن ينقلب غير هذا المنقلب، أو يذهب في غير ذلك المذهب. |
وأصبحت المادة، هي الشاغل الأول والهدف المقصود؛ فمن لم يقدر على العمل حراً أو يعيش في ظل ثروة متروكة، فإنه سيطلب الوظيفة بأي وسيلة ممكنة، وسيستطيع أكسلهم وأبلدهم واحدة من هذه الثلاث، فإذا استغرق فيها وقته، وضمن منها عيشه، فأي شيء يهمه بعد؟ |
من شباب هذا الجيل من يأخذ الجريدة ليقرأها، فإذا أشغلته عن بذور "البطيخ" التي يؤكل لبابها، أو صرفته عن محادثة صديق، أو عن كوب شاي، رماها من يده بدون احتفال، ورأيت أحدهم يهتم بزميل له انتقل إلى عمل آخر أكثر من اهتمامه بالقنبلة الذرية في أول العهد بها. |
وكنا نتحدث مرة عن "العقاد" فقال أحدهم -وهو نصف متعلم بالنسبة إلى محيطنا- أهو فلان؟ -وسماه: العقاد الموظف، وذكر مكان عمله! |
ومع ذلك فستراهم آنق ما يكون هنداماً، وأحسن بزة، وسيكون لهم أيضاً مستقبل باهر بإذن الله، وقد يصبحون رؤساء شعب أو إدارات.. فمن يدري؟ |
ولا بد أن هناك عللاً نفسية كثيرة، فإن الوضيع يحسّن له غروره أن يلبس أمام الناس حلة قيصر، والضعيف يرغب أن يبطش بطش "إيفان الجبار" الذي كان يحكم روسيا قبل قرون، يريد أن يردد حكم سليمان عليه السلام. |
وهناك ما يصرف النفس عما ينفع إلى ما يضر، وما يصرفها أيضاً إلى مستبهم لا يمكن إدراكه.. وهناك شتات الذهن حينما يتفرق شمله، وانشغال البال بأمور تهم، وقد لا تهم.. ولا تنس بعض هزات تصيب الأعصاب فتدمرها، فلا تقوى بعدها على مواجهة أي احتمال، ولا تطيق حتى ما يفيدها أو يغذيها. |
وقد تحب أن تقرأ شيئاً نفيساً، فتصدق نفسك عنه لانشغالها بتدبير المعيشة، أو لانبعاث تفكيرها في شيء آخر، أو للشعور بالحرمان مما يتمتع به أناس آخرون. |
وقد تتكلم بطلاقة فتجمجم فجأة، إما لأن سياق الكلام أعياك، وإما لأن ذهنك ترامى إلى ميدان بعيد. |
وأما الشعر فأمره أهون، وإن عندي لأكثر من مائة قصيدة مبتورة، أكثرها ينيف على العشرين بيتاً، وأقلها لا يتجاوز الستة أبيات، ولم أكمل موضوعاتها إلى الآن، وقصص، وأبحاث، ومقالات، ومع ذلك فأي شيء يغريك بأن تتم ما تريد؟ لا وفرة طباعة، ولا كثرة صحافة ولا... إلى الآخر! |
وقد اجتزت بكل هذه العثرات، ومست رأسي بقوادمها وخوافيها، وغدوت لا أعجب منها، ولا أرتاع لها، ولن أصبح منها في مكان استغراب. |
جيل جديد يريد أن يساير زمنه، وأن يسبقه أيضاً في أكثر الأشواط، بلا أهبة تامة، ولا استعداد كامل، فأي علاج يمكن أن يشفيه!؟ |
إن مرارة النفس وطول السأم مرجعهما إلى النفس، ومصدرهما منها، إذا عرف كل إنسان كيف يفكر، وكيف يقدر وكيف يحسن تفكيره وتقديره. |
|