شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مشكلة الصمت (1)
هذا لا يجوز، إن الصمت فضيلته قل أن يرعاها أو يصبر عليها إنسان، فكيف يمكن أن يكون مشكلة؟
ولكن الصمت قد يعتبر مشكلة عند طوائف خاصة من الناس، عند الثرثارين والنساء والبكم مثلاً؛ فاللحظة التي يصمت فيها الثرثار، هي لحظة نادرة خالدة لا في تاريخه هو فحسب، بل في تاريخ البشر أجمعين.
وكيف يسعه أن يصمت؟ إنه بذلك يتجاوز طاقته، ويخرج عن أخص طباعه ويسمو -ولو مؤقتاً- فوق حضيضه الأوهد.
وكيف تصمت المرأة؟ هذا قياس لا يستقيم، وحلم جميل لا يمكن أن يطيف بذهن إنسان، وخطرة رائعة، وكمال روعتها منحصر في عدم تحقيقها.
إن معنى صمت المرأة -لو أنه حدث- هي أن تكف الشمس عن الدوران، وينقطع القلب عن الخفقان، فهل هذا ممكن؟
والأبكم تتحول مادة النطق فيه من ألفاظ وحروف إلى صراخ مستمر، سداً لعلة النقص فيه؛ فهو ما يفتأ يشير بيديه ويغمز بعينيه، ويصيح بملء شدقيه، وذلك مقياس ثرثرته وسبيلها إلى الظهور والاستعلان. والصمت مشكلة أيضاً، بل أعظم وأفدح من مشكلة، إذا أريد من الإنسان الحر أن يلوذ ببرج صمته المطلق، وهو يرى المناكر والمهازل والأباطيل أمام عينيه، ثم يحتم عليه إزاء ذلك أن يظل صامتاً ضامزاً مثل الشاة -على حد تعبير ابن الرومي. (2)
ولعل ذلك ما توخاه صديقي الأستاذ صاحب المنهل حينما طلب مني أن أكتب في "مشكلة الصمت" بعدده الممتاز.
وفي ما عدا ذلك لا يسعنا إلا أن نعتبر الصمت فضيلة نادرة، فالصمت حكمة وقليلٌ فاعله، والصمت من ذهب -انظر كيف رنّت كلمة الذهب؟- إذا كان الكلام من فضة، إلى آخر ما تدور به الألسن، ويتناقله الرواة والأقلام من مأثور الأقوال، وجوامع الكلام.
وهناك صمت أقوى من التعبير؛ فإن صمت البليغ والحزين والمفجوع والمضطهد، والصمت الذي يستمد مادة تعبيره من روائع الصور الفنية على مختلف نماذجها العالية، وصمت بعض الحيوانات الذكية، كصمت القط في ملقه، والكلب في وفائه وإخلاصه، والقرد في محاكاته، وغيرها.. مثل هذا الصمت المعبر أبلغ التعبير، حقيق أن يلهم كثيراً من الكتّاب والشعراء أرفع آيات فنونهم.
ولا تنس أيضاً صمت القبور؛ فهذا التراب وهذه الجلامد، تعبر لك عن مجموعات هائلة من الحيوات الحافلة من متناقضة ومن متماثلة اندرست أعنف اندراس وراء هذه الأرماس.
وهناك شبه عجيب رائع بين صمت الميت في قبره، وصمت أحرار الأحياء إذا وضعت الأقفال على أفواههم وأحكم إغلاقها، فإن التعبيرين هنا يفيضان من منبع واحد.. كلام ولا كلام، سكوت ولا سكوت، ووراء ذلك كله آلاف من المعاني والأحلام والأطياف؛ ما تستهل إلا لتقلع، وما تبين إلا لتغمض، وما تكاد تقول، إلا طاف بها طائف مزعج من العي والذهول.
وللنفس الإنسانية أطوار متفاوتة تتمنى فيها الصمت، وأطوار أخرى تتشهى فيها الكلام؛ وخيرها -في ما أعتقد- ما يستراح به من العناء إذا كانت كل صيحة تطلقها لا يصيخ إليها ولا يستجيب لها أي صدى من الأصداء.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :241  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 177 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الشعرية الكاملة وأعمال نثرية

[للشاعر والأديب الكبير أحمد بن إبراهيم الغزاوي: 2000]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج