شيء من التسلية!..
(1)
|
"حمل إلينا بريد لندن الرسالة التالية من كاتبها الإنكليزي، يطلب إلينا فيها حل عقدة من العقد النفسية التي حاقت به في مجتمعه الصاخب... وقد رأينا أن ندفع بالرسالة إلى الصديق الأستاذ حسين سرحان ليتولى الإجابة عنها وقد فعل...". |
ترجمة الرسالة: |
"إنني شاب ذكي، ولكني منعزل عن الشعب، وإنني أعزب. |
الحياة في لندن اليوم مرهقة.. هل هناك أحد من قراء مجلتكم يعنى بتسلية هذا الشاب الإنكليزي الذي اعتزل حياة الناس بعد الحرب العالمية الثانية...؟ |
أريد أن أستمع من مواطنيك من يتفضل بالاستعداد ليكون صديق القلم... لمخلصكم إريك لومير". |
جواب الأستاذ حسين سرحان: |
الغرب المصفد بأغلال المادة يريد تسلية روحية من الشرق.. كل شيء في الغرب لا يوزن ولا يقاس إلا بالدرهم والدينار، ولكن الشرق ما يزال لحسن حظه أو سوئه هو الينبوع الصافي الخالد لكل حياة روحية نقية، ولن تعدم القاعدة شذوذاً هنا أو هناك، ولكن المقياس يطّرد، ويطّرد فلا يختل إلا بنسبة تافهة ضئيلة، مثل نسبة جزء من أجزاء الثانية بعد عشرات الساعات الطويلة في "ساعة بيغ بن" مثلاً. |
ويرى القارئ في مقدمة هذه الكلمة رسالة أريك لومير وهي على إيجازها تعبر أجمل التعبير عن حالة صاحبها النفسية، وحالته الاجتماعية، ومن حقي بعد أن اختارتني "المنهل" لتسلية صاحب هذه الرسالة أن أقدم إليه نفسي فأقول له: إنني شاب متزوج ولي أولاد، وقد كنت معتزلاً مثله، إلى أن دفعتني الظروف القاهرة إلى الاختلاط بالناس، وكل الفرق بيني وبينه، هو أنه ينشد التسلية من أبعد الآماد، ولكني أنا لا أنشد التسلية ولو من أقرب سبلها، والسبب سهل جداً، فإن الحياة نفسها هي التسلية الكبرى لبني الإنسان، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم فيها. |
لندن الصاخبة بكل عوامل الاستمتاع والترف والزاخرة بأفانين اللهو والسرور، أصبحت كلها عقارب برم وضيق وإرهاق في نفس هذا الشاب الإنكليزي الذكي، ويلوح لي أن لذكائه الحاد أثراً في مزاجه المرهف، وهو مزاج شر ما فيه، بل لعله خير ما فيه أنه يغذي عنصر الملل في النفس حتى يحيله إلى شبح مفزع مثل الشبح الذي يذكره "أوسكار وايلد" في إحدى رواياته. |
لا مراء في أن الغربي أعرف بوسائل التسلية والاسترواح من الشرقي، فما بالك يا صديقي بشرقي في الحجاز، وفي مكة المكرمة بالذات؟ |
قد تكون المطالعة -مطالعة الكتب والصحف- تسلية، ولكنها مضنية ولن تنتهي منها إلى نتيجة صحيحة، حتى في تقرير الحقائق المفروغ منها. |
وقد تكون الصداقة تسلية لا مع الإنسان فقط فإن ضررها هنا أكبر من نفعها، ولكن مع كل شيء، مع الحيوان والحيطان والأثاث والشوارع، ومع نفسك على الأخص، فإنك لا تستطيع أن تعيش هانئاً، وأنت تناصب نفسك العداء. |
إن صداقة النفس فن عظيم سامٍ، ولكنه مرهق عسير، ولا يكون المرء سعيداً مسروراً في الدنيا إلا إذا احتكمت عرى الصداقة الرضية بينه وبين نفسه.. فهل تستطيع؟ |
ولا شك أنك تَزْوَرُّ بطبيعتك عن دور اللهو، على كثرتها لديك وضآلة نفقاتها، فإن أغلبها ينحصر في إثارة الغرائز الوضيعة؛ ولكني أحسب أن لندن لا تخلو من فنون ممتازة عالية، قد تجد عندها بعض التسلية. |
ولو استطعت أن تغير اتجاهك لقلت لك: اجمع لك من خير ما قرأت، وانشره في كتاب كما صنع "اللورد وايفل" في مجموعته المصطفاة "زهور قوم آخرين" فقد ترجم منه إلى العربية نخبة جيدة. |
أم هل يمكنك أن تكون شاعراً ساخراً في فكاهة ورزانة مثل توماس هاردي؟ ولكني لا أعرف عن مواهبك شيئاً.. |
ولو كنت تريد لأشعلت في لندن حمى قوية مثل حمى "بيرون"، غير أني أعتقد أن سبيلك غير سبيله في محافظتك وحفاظك. |
لست أدري كيف أسليك، وكيف يفعل ذلك من لم يستطع أن يسلي نفسه، فأصبح لا يلتمس التسلية إلا في سيرة الحياة الحمقاء، ومفارقاتها السخيفة، وما تنطوي عليه من غبن هائل. |
ولو طابت لي مداعبتك، لقلت بأن الإنكليز قومك، يقولون إنهم أصدقاء العرب، وإن العرب قومي يجزمون بأن الإنكليز ليسوا [إلا أصدقاء]
(2)
مصالحهم في بلاد العرب، فلماذا لا تصادق مصالحكم على نحو ما يفعل قومك؟ فإنك لواجد فيها شيئاً من التسلية، ولكنها تسلية عنيفة. |
أرض التسلية واسعة، فعلى أي ناحية منها تقف قدماك، فليكن هناك مثواك ومرساك، فإن تسليت كما يشاء قلبك، وامتدت أمامك آفاق الحبور فاذكر صديقاً لك عربياً وقف معك ساعة من زمان، يقرأ رسالتك بعد تعريبها، ويرد عليها، ويطرب لها ويعجب منها؛ وكم فيكم أيها القوم من أطوار كأنها آثار، يتملاها الإنسان ويدهش لها، فلا يكاد يفرغ منها إلا وقد انتهى إلى طور جديد. |
فما هو طوركم الجديد يا أبناء [التايمز]
(3)
. |
|