حديث من مكة مع الشاعر حسين سرحان: |
أنا دودة كتب.. لا أمل القراءة
(1)
|
حوار عبد الله بن سند العصيمي |
أربع ساعات متواصلة قضيتها مع الشاعر في صومعته شاركته فيها الاعتكاف عن الناس والخلو إلى الكتب التي يعتبرها السرحان زاده الممتع.. فهو مدمن قراءة.. لا يفارق الكتاب لحظة.. ولا يفارقه الكتاب لحظة.. ويقول السرحان: إني أقرأ حتى أسمع أذان "ابن [نصر] الله"
(2)
(يقصد مؤذن المسجد القريب من منزله) حين ينادي لصلاة الفجر.. بعد ذلك ينام حتى الساعة الثالثة صباحاً.. إنه ينام أربع ساعات فقط خلال الأربع والعشرين، ويعلل السرحان ذلك بقوله: إنه الأرق.. أحاول أن أتخلص منه بالقراءة.. وفي خلال هذه الساعات الأربع.. تم هذا اللقاء بيني وبين السرحان.. |
- قلت للسرحان: |
- أين بدأت حياتك الدراسية، ومن هم زملاؤك!؟
|
- بدأت الدراسة الأولية في الكتاتيب، ثم استأنفت دراستي بمدرسة الفلاح لمدة سنة ونصف حتى إذا انتهيت من السنة السابعة انطلقت منها، وأتممت دراستي على نفسي مطالعة وقراءة.. وما أزال.. وأذكر من زملائي الصديق إبراهيم الجفالي.. ومنهم أيضاً علي حناوي وغيرهما.. |
- وحياتكم العملية متى بدأت؟
|
- حملت السلاح بين يدي النائب العام الأمير فيصل آنذاك.. وكنت أجيد الرماية بكل أنواع البنادق والمسدسات.. ورافقت جلالته في رحلات متعددة.. منها إلى "لية" ثم إلى "الخرمة" وإلى "الغثمة".. ومضى علي زمن في حمل السلاح.. حتى بعث إلي أخي الكريم الشيخ عبد الله السعد لأعمل معه في "فرع مصلحة اللوازم" بالطائف.. بين عامي 62-1363هـ.. ومن هذا التاريخ بدأ عملي في الوظائف الرسمية.. وما تزال هذه الأعمال تطوقني بأطواقها الحديدية إلى اليوم.. |
- ترى هل وقعت في مقلب أدبي من قبل؟!
|
- نعم.. هذا هو المقلب! |
- ماذا تعني!؟
|
- أعني أني لم أعتد مطلقاً أن أسمح لإنسان أن يبحث في خصوصياتي، فكل إنسان مهما كان له وجه خفي بينه وبين نفسه لا يمكن أن يكشفه للناس.. ولذلك قالوا: إن لكل إنسان شخصيات ثلاث: شخصية مع الناس.. وشخصية مع أهله.. وشخصية خاصة مع نفسه.. وهذه الأخيرة لا ينبغي كشفها لكل واحد لأنها تخصه بذاته.. ولا تخص أحداً غيره.. وهذا هو ما عنيته جواباً على السؤال السالف من حيث "المقالب".. وهل يمكن أن نسأل أئمة اللغة العربية لدينا ماذا يرادف كلمة "مقلب" في اللغة العربية الفصحى؟ |
- هل مررت بفترة حرجة من إنتاجك الأدبي والشعري؟!
|
- لقد كان عندي إنتاج كثير من هذا الهراء بين شعر ونثر وقصص.. وفي يوم من الأيام حضر إلى داري الأستاذان عزيز ضياء وطاهر زمخشري، وأذكر جيداً أن الأستاذ عزيز أخذ مني مجموعة وافرة من إنتاجي بدون أن تكون عندي أصول لها على أن ينشرها.. فإذا كان هذا يعتبر مقلباً فهو كذلك.. وإن كنت أنا لا أعتقد هذا.. ولقد اصطحب هذا الإنتاج معه في "سحارة" خشبية.. وكتب عن هذا الموضوع الشيء الكثير في صحفنا.. فلم يكن له أي صدى؟ |
- وهل اعتبرت بهذا "المقلب"؟
|
- إن كل عمل مهما كان تافهاً يجب أن يكون مادة للدراسة، أما في هذا الموضوع بالذات فقد عنيت به مبدئياً، ثم أصبحت عديم الاكتراث به بعد ذلك، وقد كان يصح نفس الشيء مع أستاذنا العواد بعد أن أعطى مجموعة من إنتاجه لعزيز، ثم استدرك الغلطة وأخذها منه بدعوى التصحيح والزيادة والتنقيح.. ثم لم يعدها إليه.. |
- ترى هل لهذا المقلب علاقة بانقطاعكم واعتكافكم عن الجو الأدبي!؟
|
- بالعكس إن انطوائيتي حالة مزمنة كأي مرض مزمن.. وليس لكل ما سبق ذكره سبب في ذلك.. |
والانطوائية -كما أفهمها أنا، وليس كما يفهمها الناس- معناها عندي نوع من الاعتكاف والإخلاد إلى الراحة والقراءة والدراسة بمعزل عن المؤثرات الخارجية.. فإن في ذلك نوعاً من الاستقرار النفسي.. والاستقلال الذهني.. علاوة على ما تمتاز به من الطمأنينة الذاتية.. وأحب أن أستدرك بأنني لست منطوياً كما يزعمون.. فإنني أذهب إلى مقر عملي وأتجول في الأسواق وأستعرض الناس وأسمح لهم باستعراضي وأستقبلهم في داري وأزور بعضهم، فكيف أكون بعد ذلك منطوياً انطواء كلياً؟ |
- ماذا حدث في إنتاجكم بعد ذلك!؟
|
- قبل مدة قصيرة أرسلت إلى الأخ عبد الله عمر خياط مجموعة من شعري بطلب منه، ثم زارني بمكة واتفقنا على بعض الشروط اللازمة لنشر هذه المجموعة.. وما تزال لديه.. وهو مستعد لنشرها في ديوانين متتابعين إذا استوفت شروطها اللازمة. |
- بودي لو تحددون مكانة السرحان كشاعر بين معاصريه!؟
|
- المعروف أن الشاعر أو الكاتب لا يمكن أن يحدد مكانته بين معاصريه، والقرّاء وحدهم هم الذين يحددون المكانات.. ويضعون القيم لكل كاتب أو شاعر. |
- أيهما أحب إليك: نظم الشعر.. أم الكتابة النثرية!؟
|
- لعلّ من الغريب أني أنا شخصياً أميل إلى نثري مني إلى شعري. أما من حيث الإنتاج فنظم الشعر أو كتابة النثر كلاهما عندي بمكان واحد.. ولا أجهد نفسي، لا في هذا ولا في ذاك.. |
- المعروف أنك تجيد الشعر عربياً فصيحاً كان أو نبطياً.. فإلى أيهما ترتاح!؟
|
- ما لا يعرفه القرّاء عني.. أني أميل إلى نظم الشعر النبطي وروايته وحفظه أكثر من الشعر الفصيح.. فإني أحفظ الكثير لأعلام شعراء النبط من أمثال: ابن لعبون، والقاضي، وابن سبيّل، والهزاني، ومطوع نفي، والخلاوي، وابن رشيد، ومخلد القثامي.. وأحفظ اليوم الكثير أيضاً من شعر العوني وجلالة الملك فيصل ولويحان وحاسن المطرفي وعلي الزيادي ولافي العوفي وابن مستور وأحمد الأزوري وغيرهم.. ولي قصائد من مسحوب وهجيني ما يزال يتغنى بها إلى اليوم في نجد والحجاز. |
- المعروف عن معظم الذين ذكرتهم من شعراء النبط أنهم يميلون إلى الغزل وكذلك قصيدتكم، فهل يعني ذلك ميلكم إلى الشعر الغزلي ولماذا؟
|
- إن الشعر سواء كان نبطياً أو فصيحاً لا يرتكز دائماً إلاّ على الغزل والحب، ومهما تعددت ضروب الشعر ومواده فإنها تعود إلى هذا الركن الأساسي الذي هو الينبوع الخالد لكل شعر في العالم.. لنأخذ مثلاً باب المديح فإنه نوع من أنواع التغزل في الممدوح، والرثاء ضرب من ذكر المحاسن في المتوفى، والوصف معناه ذكر محاسن الموصوف، وإذا الهجاء يعكس ذلك فإنما هو يعبر عن المقابح مقابل تلك المحاسن منفردة أو مجتمعة؛ وبذلك يصبح نوعاً من أنواع الغزل المعكوس. |
- من هي ملهمتك في الشعر؟
|
- مجرد إحساسي بوقع الشيء في نفسي هو الذي يستدعي المعاني إلي شعراً أو نثراً. |
- هل كتبت قصصاً ومن أي نوع؟
|
- لقد كتبت بعض أقاصيص، وهي عبارة عن بعض ذكرياتي في رحلاتي هنا أو هناك.. ثم قال: ألم تقرأ قصتي بعنوان: "ليس هكذا يا هارميزا" التي نشرت بعكاظ قبل مدة قصيرة
(3)
؟ وقد سبق أن نشرت لي أقاصيص في البلاد وفي غيرها من الصحف السعودية. |
- كم ساعة لقراءتك واجتماعك بأصدقائك، وكم ساعة لأسرتك، وكم ساعة تخلو فيها لنفسك من خلال الـ 24 ساعة الروتينية؟
|
- أنا لا أضع مادة القراءة من يدي إلاّ في حالة خروجي من الدار أو النوم أو أن أشتغل باستقبال بعض الناس.. وأنا أصف نفسي بأنني دودة قراءة أو عثة كتب، وأحسب أن هذا الوصف ينطبق علي كل الانطباق. |
- هل تجد عتباً من أهلك على إدمانك في القراءة؟
|
- أنا لا أقبل أي عتب من أي إنسان كان.. ولا أضع نفسي موضع اعتذار ما دمت أعلم أن سلوكي يتلاءم مع ما في نفسي.. وفي ما خلا ذلك فليس لأحد علي أي سلطان ما دمت على يقين بأن اتجاهاتي الخاصة لا تصطدم باتجاهات الآخرين. |
- لمن ترتاح من الشعراء القدامى والمحدثين؟
|
- من القدامى أقرأ في النثر لأبي هلال العسكري وابن قدامة وابن قتيبة والآمدي والجاحظ والتوحيدي، وفي الشعر أرتاح إلى قراءة المتنبي وابن الرومي وأبي تمام والبحتري، ومن المحدثين أقرأ بين الشعر والنثر للعقاد والمازني وشكري والرافعي وطه حسين وشوقي ومارون عبّود وأمين نخلة وسيد قطب وأحمد أمين وغيرهم. |
- هل تأثرت بأحد من أدباء المهجر في مبتدأ حياتك الأدبية؟
|
- ليس معنى هذا أن الإنسان إن قرأ لإنسان آخر أن يتقبل طريقته أو يتأثر به فكرياً، وإلاّ لكان معنى ذلك أن يكون أحدنا عبارة عن ببغاء يردد أقوال الآخرين.. وإذا قرأ الإِنسان لعشرات أو مئات وكلهم حبيبون إليه فهل معنى ذلك أنه يصبح صورة طبق أصول كل أولئك العشرات أو المئات؟ ولو سلمنا جدلاً بذلك لكان القارئ عبارة عن نسخة بيضاء انطبعت عليها ألوف من وجوه المؤلفين الذين قرأهم ونحصل من ذلك على وجه ممسوخ مشوه، ومثل هذه الصورة هل يمكن أن تحدث في ذهن إنسان صحيح؟ |
- من ترشح من أدبائنا ممن له القدرة على إخراج إنتاجهم من النطاق المحلي إلى النطاق العالمي كل حسب نهجه.. أدب -شعر -قصة؟؟
|
- أنا لا أرشح إلاّ شخصاً واحداً وهو الأستاذ حمزة شحاتة في كل إنتاجه من شعر ونثر. |
- لماذا؟
|
- أنا أتكلم عن رأيي الخاص؛ ولذلك فإني أتذوق من شعر حمزة شحاتة ونثره ما لا أتذوقه في الآخرين، وهو إحساس خاص يجوز أنه لا يصدر إلاّ عني منفرداً. |
- المفهوم من إجابتكم ما قبل السابقة أن القصة معدومة في بلادنا؟
|
- ليست عندنا قصة بالمعنى المعروف، ومصر على ضخامة إنتاجها القصصي وتهويل دعايتها وصحافتها وإمكانيات مطابعها فهي مع كل ذلك لم تصبح ذات وزن رئيسي في ميدان القصص العالمي. |
- ما هي مقومات القصة في نظركم بحيث تكون على مستوى عالمي؟
|
- إن مقومات القصة في نظري تنبع من طبيعة البلد الذي تصدر عنه ومن سلوك سكان ذلك البلد ومن عناصر البيئة والمجتمع التي تؤلف الجهاز العام في ذلك البلد، ولذلك نجد أن القصة الروسية تفوقت على كل مثيلاتها في العالمين الغربي والأمريكي، فأمثال تورجنيف وتولستوي، ودوستويفسكي وهاتزيباشيف وأمثالهم وهم كثيرون قل أن يوجد لهم ضرباء في العالم الغربي، وقد ترجمت القصص الروسية الطويلة والقصيرة إلى كل اللغات العالمية وأعيدت طبعاتها عشرات المرات، وليس معنى ذلك أن ننسى القصص الفرنسي فإن فيه نوابغ أيضاً أمثال: إميل زولا وموباسان وفولتير وأناتول فرانس وموليير وغيرهم، كما أن في الأدب الإنجليزي أمثال: ويلز وبرنارد شو وتوماس هاردي وشكسبير، والقصة تفوقت في مثل هذه المواطن؛ لأنها تصور مشاعر القوم وتصف حالتهم الاجتماعية، ولذلك ليس للقصة عندنا أي منبع أصيل يمكن أن تصدر عنه. |
- هل أحببت في حياتك، وهل لهذا الحب تأثير في شعرك علماً بأنك ذكرت في إجابة سابقة أن الشعر يرتكز على الحب؟
|
- لقد مرت علي حالات مؤقتة ولم يصل الحب إلى أعماقي مطلقاً، وأعتقد أن الحب لا يتوقف على الجنس الآخر، فقد يحب الإنسان قطعة من الأرض أو شجرة أو روضة أو أي شيء آخر، وصورة المحبوب أياً كان تعمق في نفس الإنسان بمقدار ما تنطبع فيه تلك الصورة، فإذا زالت تلك الصورة زال الحب. |
وهنا قال لي: أرجوك.. كفى.. أهلكتني.. لقد تعبت من الإجابة.. فكلما أنتهي من إجابة وأقول إنها الأخيرة، تذكر لي سؤالاً جديداً.. ولم أفلح في استدراجه للاستزادة. |
|