لورنس.. الأكذوبة
(1)
|
قبل أكثر من شهر وقعت في يدي ترجمة لكتاب الكولونيل لورنس، المشهور الموسوم بـ "أعمدة الحكمة السبعة"، وهو من أسير مؤلفاته ومذكراته عن مواكبته لثورة المرحوم الشريف الحسين بن علي على الأتراك أيامئذ.. وقد كان الإنكليز يمدون هذه الثورة بكل ما استطاعوا من أموال ورجال ونصائح وتوجيهات.. وقد اتصل بكل أبناء الشريف الحسين.. وهم: علي وعبد الله وفيصل رحمهم الله، وزيد الذي يقال إنه ما يزال يعيش في إنكلترا.. وهو أصغرهم.. |
وقد رافق لورنس ثورة العرب يطريها حيناً.. ويسخر منها حيناً آخر كدأب أي إنكليزي سواه في كل ما يعترضهم من أمور غيرهم.. فإن الإنكليز على العموم يقتصون عندما يعجبون بالآخرين.. فأما إعجابهم بأنفسهم فإطلاق لا قيد له.. |
كان لورنس يعجب بالمرحوم فيصل على نمط ما ذكرت آنفاً.. وكان يرى أنه أحسن من أبيه العنيد، ومن بقية إخوانه، فارتأى أن فيصلاً تحت تمرينه وتوجيهه هو خير من يؤدي الدور في إطاره المحدود تحت رقابة لورنس. |
ولذلك فقد اتصل به اتصالاً وثيقاً واستماله بالمواعيد الخلابة الممزوجة بصناديق الجنيهات الذهبية الإنكليزية بلا حساب.. على أن يحكم الأشراف بعد جلاء آخر جندي تركي وألماني.. |
هذه الإمبراطورية العربية التي -كذوات- أربع من الشمال والجنوب والشرق والغرب.. ولو كانت هناك -كذا- خامسة لحددوها بها.. |
وارتفع لواء الشريف فيصل.. فاحتشد إليه العربان من مختلف القبائل هناك.. الأصفر الرنان والإمكانيات الكافية.. ووراء كل ذلك لورنس البطل الأسطوري الكذاب.. |
كان هو كما يدعي في كتابه سالف الذكر كل شيء مضروباً في كل شيء ملايين المرات.. ولم يزل بهذا اللواء الزاحف إلى دمشق الشام مرة يعلو.. وآونة ينخفض.. وتارة ينتظر.. وحيناً ينهزم.. الأمير اسماً هو الشريف فيصل.. |
ولكن الحركة والفعل والتدبير والرأي كل هذه من خصائص لورنس الكذوب التي ينفرد بها.. |
هكذا يخيل إلى من يقرأ أعمدة حكمته السبعة مما يثب فوق السطور أو يتسق معها أو يختفي وراءها. |
وكل ما صدق فيه لورنس أنه علَّم فريقاً اختاره من العرب ودربهم على تفجير الألغام ونسف السكة الحديدية التي كانت تغدو وتروح بين المدينة المنورة وبين دمشق الشام.. فقد كانت القطارات الحديدية تمون وتمد حامية المدينة المنورة الباقين فيها من كتائب الترك.. وكانت أقوى وأخطر حامية على الثورة العربية يومئذ.. |
وقد قال لورنس: إنه أصبح أصبر من البدو الأعراب على العطش والرمضاء والشمس والسير ليلاً ونهاراً والجوع، وهذا كله محض اختلاق وادعاء خليقين بإنكليزي يقال عنه زوراً إنه ملك العرب غير المتوج.. أو على الأصح المتوج بأكاذيبه ومزاعمه.. |
وقبل أكثر من عشر سنوات ذكرت "أخبار اليوم" وغيرها من الصحف المصرية أن هناك لفيفاً من المؤرخين الإنكليز ألفوا كتباً عديدة ردوا فيها على شطر كبير من ادعاءات لورنس المزيفة.. وفندوا الكثير من مزاعمه الباطلة.. |
وثبت أنه كان يتردد على برنارد شو من أعلام البيان الإنكليزي وغيره من ذوي الأريحية البلاغية في الأدب الإنكليزي قبل أن يصدر مؤلفاته عن الثورة العربية ومشاركته فيها.. |
رحمة الله على الشريف علي بن الحسين الحارث الذي مات قبل سنيات أقل من العشر.. وقد كان من أبطال تلك الثورة.. وقد أشار إليه لورنس في كل ما كتب عن الثورة.. ووصفه بأنه كان شجاعاً متهوراً. وكان الشريف علي صديقاً للوالد علي بن سرحان رحمه الله، وكانا يتزاوران؛ فمن قبل أكثر من ثلاثين عاماً صدرت ترجمة لكتاب لورنس سماه معربه "صموئيل مسيحة" أحسبه لبنانياً -"ثورة في الصحراء"، ولست أدري إن كان هذا الاسم ترجمة لعنوانه باللغة الإنكليزية، وكان في ما أظن لا تتجاوز صفحاته مائتي صفحة.. فقد بعد عهدي به.. وكان مزيناً بصور قلمه بريشة لورنس لكل من الشريف علي الحارث المذكور.. وعودة أبي تايه شيخ عرب الحويطات
(2)
وغيرهما مما لا أذكر الآن.. وقد كان [كلاهما]
(3)
من رفاقه في الحرب.. |
حدثني الشريف علي الحارث فقال: |
"لقد كان لورنس جباناً هلوعاً.. ولم يخض معنا أية معركة.. بل كان يبتعد ويركن إلى الفرار كلما سمع الرصاص يلعلع.. وكان في صفاته وطباعه أميل إلى الأنوثة منه إلى الذكورة.. وكل ما تعلمناه منه نسف القطارات الحديدية بالألغام".. ثم استضحك وأردف قائلاً.. وهو يحك سبابته بإبهامه: |
"ولكنه كان جواداً بذولاً.. وإذا احتجنا أو مستنا ضائقة ملنا إليه.. وكان لا يتذمر". |
.. وقد قرأت مرة أن أعمدة الحكمة السبعة تعتبر من حيث البيان والبلاغة في الذروة من الأدب الإنكليزي الحديث، أما هذه الترجمة إلى اللغة العربية فقد كانت بأسلوب سوقي عامي ركيك مبتذل متهافت؛ ولذلك فقد توارى المترجم ولم يضع اسمه وحق له.. كل ما هنالك أن الترجمة من حقوق منشورات المكتب التجاري للطباعة والتوزيع والنشر في بيروت.. وتقع في حوالي 444 صفحة.. |
|