الهوى والشباب
(1)
|
لصديقي الأستاذ العطار
(2)
مفارقات طريفة: فما كنت أحسب أن بينه وبين الهوى والشباب وئاماً ولا سلاماً؛ فقد نشأ نشأة خيرة فيها انزواء وحياء وانقطاع عن أسباب المجتمع: مجتمع الهوى والشباب الذي نحن بسبيل التحدث عنه على أثر صدور ديوانه الموسوم بهذا الاسم، وقد أنخدع بالعناوين أحياناً، ولكني لا أنخدع بها دائماً، وكنت خليقاً أن أذهب مذهب التحرز والدقة، فأطابق بين عنوان الديوان، وبين ما يحتويه من الشعر. |
وكدت أفقد صوابي فعلاً حينما تأكدت أنه اسم على مسمى، وأن كل ما في الديوان من مقطوعات وقصائد تضرب على هذين الوترين الجميلين بضروب ذوات ألوان من المتعة والتشويق والنغم الرشيق. |
العطار يعرف الهوى والشباب على هذا النحو الحي العميق؟ |
تلك أعجوبة الزمن، وهي أعجوبة لا يتقضى لها عجب، حين نتذكر أنا كنا نتفقد فيه هذه الموهبة فلا نجدها في ما يبدو من ظواهره ولا في ما يستتر من ملامحه. |
وبعد، فإلى الديوان النفيس، ولن ننصب في التنقيب لنعثر على خير ما يزخر به من ذخائر الإحساس والشعور في أقشب ثوب من اللفظ الجزل والديباجة المتينة. |
وأستطيع أن أصرح للقارئ بلا مبالاة أني لا أعرف أسماء البحور في الشعر ولا تفاعيل الأوزان ولم يستقم لي ما استقام للعطار من وزن الشعر كما يقول في مقدمته الصغيرة، ومع ذلك ففي شعره أبيات كثيرة مختلة الوزن. |
يقول في قصيدته "الشقوة الآسرة" في صفحة 37: |
وينتهي إلى الجنون محتدها، فهذا الشطر فيه زيادة، ولو استبدل إلى باللام لاستقام الوزن، ومن هذه القصيدة نفسها في الصفحة التي تليها يقول: |
أين الليالي اللواتي نعمت بها، وهو كذلك زائد، ويستطيع أن يقيمه باستبدال اللواتي بالتي. |
وفي صفحة 45 في قصيدة شهرزاد الجديدة يقول: |
لك الله -يا هند- لا تضجري |
إذا أدك الدهر بهذا النكال |
|
والشطر الأخير يزيد ربع شطر، ولست أدري كيف يستقيم وزنه ولا كيله؟ |
أما في صفحة 47 فينقص الشطر في مثل قوله: |
أيفهم مملوكها فضلها |
وفضل مبسمها الزائنِ |
|
فالشطر الأخير قزم بالنسبة إلى الشطر الأول. |
وينقص كذلك شطر آخر في مثل قوله من قصيدة جبل طارق صفحة 64: |
الذي يخشى بأس قوم آمنوا، ولا يكتمل وزن الشعر إلا إذا سلطت المد الوافر على اللام من كلمة الذي، وهو غير جائز ولا صحيح. |
وفي صفحة 71 يقول في قصيدة الحرب: جاء إليها ذوو القربى ضحى، وهو مختل بما لا أدري كيف أسميه؟ وفي نفس هذه القصيدة في صفحة 76 يقول: سقط الطيار من سربه، وفيه نقص.. وغير ذلك مما لم أستقصه. |
وهناك أخطاء أحسب أنها ترجع إلى الطبع فمنها بصفحة 16 في ما قال: |
وروضي وأضوائي إذا أغام غيهب، وأعتقد أن "غام" كافية بلا ألف مهموزة. |
وفي صفحة 23 يقول: |
أنت لي أيها الحبيب الأغر، والمؤكد إن كان كل تأكيد يصدق أنه يريد الرفع فخفض. |
وفي صفحة 49 يقول في البيت السادس: والتجاريب حاجم، وهو يقصد جاحم إن كان لا يقصد إلا الصواب.. إلى غير ذلك، وهو كثير. |
أما المآخذ اللغوية بالرغم من أني أعترف أنه ليس بين يدي أي مرجع للغة، فقد لاحظت قوله في صفحة 29: |
رقصن بقلبي أنهراً ولياليا. والذي أتذكره أن الأنهر والأنهار جمع نهر لا جمع نهار، وأن جمع نهار -كما أظن- إن كان له جمع نُهُر مثل غُير وصبر. |
وهناك أبيات أو فكر مشعشعة بأرواح أناس آخرين؛ فقصيدة "بل ربيع العمر في هذا المكان" ترفرف عليها روح علي محمود طه في أكثر معانيها وصورها. |
وفكرة قصيدة "الحياة فوق الذرى" مأخوذة من مقطوعة لعباس محمود العقاد معروفة، وأتذكر -إن لم أنس- أن القصيدتين مشتركتان في البحر أيضاً.. |
وفي صفحة 93 في قوله: وكلب صار إنساناً، تذكرت بيت ابن الرومي المشهور
(3)
. |
وفي صفحة 94 المفازة المحمية يطل علينا حبيب بن أوس الطائي من نافذة جميلة
(4)
. |
وقصيدة "أخي" فيها مشابه كثيرة حتى في البحر من قصيدة معروفة لشاعر مهجري أظن أنه نسيب عريضة وغير ذلك
(5)
. |
وتأتي بعد ذلك هنا أو هناك أبيات فيها ضعف وركاكة، مثل: |
ومن يستطع فعل الجميل فإنما |
قبيح به ألا يكون بمكرمِ |
|
في صفحة 41 وفي مطلع الصفحة نفسها يقول: |
وعدِّ عن الأحلام، واقنع بما ترى |
فذلك أجدى بالفتى المتقحمِ |
|
والفتى المتقحم لا يقنع بما يرى ما في ذلك شك.. ومثل: |
فاستبسلوا، فالنصر في أيديكمُ |
واستأسدوا، فلأنتم من يحكمُ |
|
في صفحة 65، ولأنتم من يحكم هذه خليقة بألا يحكم صاحبها! |
وفي صفحة 134 قال: |
فإن كنت تياهاً تصول على الهوى |
عليَّ على الإخلاص! فارفق وحاذرِ |
|
وهذه العلاءات لو ركبت متن جبل لترجلت هضباته -على حد تعبير شوقي
(6)
. |
وبقيت ورقات لو تركتها لجفت في يدي، فلا بد من قذفها. |
ففي بعض القصائد "إيطاء"، وهو تكرير القافية، على أن هذا قليل! |
وفي تحيته لمحمد عبد الوهاب يقول: |
وتفتديك قلوب جد مخلصة |
كما يفديك صدقاً شاعر الحرمِ |
|
والبيت ضعيف المعنى والمبنى، ولكن المهم هو أن شاعر الحرم الذي أعرفه إنما هو الأستاذ فؤاد شاكر. |
وفي صفحة 90 أمنية محروم، والحق أنها أمنية مغتلم، فماذا ترك لغيره؟ |
وقوله: |
أروح وأغدو في الطريق كباخل |
أضاع حلياً لم يجدها فأطرقا |
|
تذكرني بشحيح المتنبي الذي أضاع خاتمه ولم يجده منذ ألف عام
(7)
، فأرجو أن يذيق الله الأستاذ العطار حلاوة الوجدان كما أذاقها باقل. |
وفي الديوان أشياء من هذا القبيل لم ألتفت إليها، فليستقصها من يريد الاستقصاء. |
وختام الكلام أو حاصل الضرب فيه، هو أن مقياس جودة الكتاب أو علو الشعر وارتفاع طبقته هو أن يتناوله النقاد بضروب من التمييز والتدقيق وأن يعثروا على أخطاء هنا، وغلط هناك، فذاك -في نظري- أصدق دليل على نفاسته وجلاله. |
فأما الكتب والدواوين التي تصدر في أول النهار لتموت وتقبر في آخره، فتلك هي التي لا يتكلم عنها، ولا يتناولها قلم بنقد أو تصحيح، ولا أعني هنا تلك الأقلام التي يعلو صريرها في توافه الكتب وسفاسفها لصداقة أو أجرة أو دهان. |
وإن العطار لحقيق أن يحيا ويرحب بديوانه الجميل الذي نستطيع أن نؤكد أنه الديوان الحجازي الأول ما دامت تجتمع فيه متعة القلب إلى مسرة النفس مع ذهن لماح سريع البادرة، وبديهة حلوة الخاطرة وجمع لأشتات من الأخيلة والمشاعر والأحاسيس التي لا يكون الشاعر شاعراً إلا بها. |
وستطبع بعده دواوين لبعض شعرائنا الفحول، فليثق -بلا ريب- أنها لن تزيد -في الكيفية- عن هذا الشعر؛ فإن زادت قليلاً، فذلك مما لا ضير فيه ولا بأس به ولا داعي إلى المقارنة والتحليل من أجله. |
|