الخط
(1)
|
أنا أؤمن بأن الخط العربي من أجمل الخطوط العالمية، إن لم يكن أجملها إطلاقاً. إنه مزيج عجيب لذيذ من الهندسة التشكيلية والتوريق النباتي وعناقيد الكرم وأفنان الزهور، هذا على جمال بارع ورواء باهر تشدك به العين، فلا تغادره إلا وهي على ارتواء من تسنيم. |
وشكول الخط وألوانه المتنوعة القديمة والحديثة من أيام الإمام علي أبي السبطين إلى أيام ابن مُقْلة
(2)
فما بعده لا تؤدى من حروف إلى أصوات فقط؛ ولكنَّ فيها متعة وإيناساً للنظر، إنما كما قال ابن الرومي في "وحيد": |
أهي شيءٌ لا تسأم العين منه؟ |
أم لها كلَّ ساعة تجديدُ؟
(3)
|
|
إني كلما رأيت خطاً أنيقاً مليماً أظل أنقل طرفي فيه قبل أن أجيل ذهني في معانيه، وكأني ألتهم بأنفي عبير الأزهار وأزدرد التقاماً أطايب الأثمار. |
إن الخط العربي نسيج وحده، وفريد ضربه.. إنه خط وشكل ومضمون، وبناء ومعنى، ولذة ومبنى، وفكرة وذكرى، كل ذلك يأتلف في أديم واحد، بل إنه -فوق ذلك- مسحة من جمال عربي خالد خلال العصور الغابرة والحاضرة، وأنا لا أقصد بالمسحة هنا الشيَّة أو السمة أو الأثر، لكني أعني بالسمة صفة خالدة تالدة تصل النفس العربية بالخط العربي على أفق جمالي خالص. |
إن الخط الذي هو أداة الفهم بين الموحي والموحى إليه، والذي هو رمز الوصل بين المتصل والمنفصل، والذي يحوّل الحروف إلى أصوات؛ هذا الخط الذي بدأ به إنسان زكي نابه، أو جملة ملوك أسطوريين، اسم أولهم "أبو جاد"، أو يبدأ من الطين الأحمر أو الفخار الأسمر، أو من أشور أو بابل لو من قبل ذلك بصور الطيور أو الوحوش والمناظر الطبيعية، هذا الخط إني أهيم به حباً، وأنا متيم به دنفاً، ثم إني بعد هذا مشغوف به أيما شغف! |
لقد استطردت استطراداً لا معنى له، ولا فائدة فيه للقراء -ربما- وكنت أريد أن أقول: الخط العربي لا مثيل له بين الخطوط في كل اللغات. |
في عام 1348 -كان عمري ستة عشر عاماً- وكنت أتلقى دروسي في مدرسة الفلاح بمكة في القشاشية، كان مدير المدرسة عبد الله حمدوه يرحمه الله، وكان من أساتذتنا الطيب المرَّاكشي، وحامد كعكي، ومحمد نوري، وفيصل المبارك، وعلوي مالكي، وحسن فقي، وسليمان غزاوي، كانت يداه ترتعشان وهو يرسم لنا "الأمشاك" على منوال كراسات نجيب الهواويني في خطوطه المشهورة أيامئذ! |
كانت هناك كراسات الهواويني بالرقعة والثلث والنسخ والفارسي، وكان سليمان غزاوي يرحمه الله يطبق عليها بقلمه المرتعش، ثم -في النهاية- أضافوا إليه حسن فقي في الخط، وكان -وما يزال- خطه حسناً.. هذا كله حصل في مدرسة الفلاح سنة 1348هـ، وقد يكون هناك تقديم سنة أو تأخيره! -سهواً- وليس في ذلك من بأس. |
كنت أيامها أحب الخط العربي بجميع ضروبه وأفنى فيه هياماً؛ حتى لقد بلغ بي الأمر أن أصبحت مبدعاً في الخط إلى درجة قصوى، بل إلى درجة أني أمسيت أكتب فيه لوحات بمختلف الخطوط: الفارسي، والرقعة، والنسخ، والثلث، والكوفي، وهذه اللوحات كانت تشمل على أمثال تقليدية مضحكة، أو غير مضحكة أمثال: |
1- من تأنى نال ما تمنى. |
2- القناعة كنز لا يفنى. |
3- الصمت [حكمة]
(4)
وقليل فاعله. |
إلى الآخر، ومن الواضح أن أمثال هذه الحكم الجوهرية على أني كاتبها فعلاً وغير عاملها بالضبط تبقى بلا معنى، ولا تحصل من كل ذلك إلا على أنّا كتبناها بخط جميل فائق الجمال، أما ما فيها سوى ذلك فإن المبنى ينافي المعنى، وقد تكون في الخط الجميل دلالة على الكيد الأصيل! |
أقول هذا وأنا بعد لم أفرغ من الخط العربي الجميل، ولا من التحدث عن آلائه؛ ولهذا حديث آخر سيأتي في حينه بدون استعجال. |
|