مشاهدات في المدينة (3)
(1)
|
في الطريق: |
ووجدنا في "المسيجيد وأبيار بن حصاني" فتيات بدويات من قبيلتي حرب وجهينة يهزجن بمدائح للنبي عليه السلام في ألفاظ عذبة، ونغمات حلوة، ويدعين للزوار بالعودة فيؤمن الزوار، وتنهمر عليهن الهبات منهم، وهكذا يرزقن في الطريق بما يجود به عابرو الطريق.. |
ومن إحدى المحطات المعروفة لتموين السيارات بين جدة والمدينة، أخذنا بنزيناً لسيارتنا، ثم واصلنا السير وغابت المحطة عن الأنظار، ونضب البنزين الذي كان في خزان السيارة (التانكي) وفتحنا تنكة، ولشد ما دهشنا واستغربنا إذ وجدنا البنزين يستحيل "غازاً"، وكدنا لا نصدق، فقال السائق: |
ليست هذه الأولى من نوعها، فكثيراً ما نجد بدلاً من البنزين غازاً أو ماءً أو خليطاً منهما، أو لا نجد إلاّ نصف التنكة أو أقل، وكان ينبغي أن تكون ملآنة. |
ثم أهرق على الأرض كمية قليلة من التنكة وأشعل الأرض فالتهبت، فكان غازاً بكل تأكيد، واستغربنا حدوث هذا بادئ بدء، ولكن لما قال السائق: "إنها كثيراً ما تحدث" هانت وعادت مألوفة. |
وما كادت تدرج قليلاً حتى تنفست "المحالة" أي "بنشرت" العجلة، وكأنما آذاها هذا الهواء الفاسد الذي اختزن في جوفها أكثر مما يجب فأحبت أن تستبدل به غيره. وقام "المعاون" ينفخ بالأداة التي تستعمل للنفخ؛ والحق أنها عملية شاقة فقد مارسها كثير من الرفاق فتراجعوا مدحورين وجاء "خادم" معنا ليشتغل فيها فصحت به: |
لا. لا.. دعها. لا تعمل شيئاً! |
وكنت أخشى أن يملأها بقوة فتنفجر، ولكنه ظن لبلاهته أني أترفع به عنها فأبدى نواجذه ضاحكاً وقال: |
لا. دعني فسيد القوم خادمهم.. |
فضحكت من هذا المغفل الذي يحاول أن يسودنا عن طريق خدمته لنا، وقلت: نعم، كان الله في عونك ما دمت تطمع بالسيادة فعليك بها!! |
ثم إن السادة في زماننا هذا كثيرون جداً، فما يضيرهم دعيٌّ يحشر في زمرتهم، لا سيما وهم يمتازون عن غيرهم بسعة الصدر والتساهل والإغضاء عن كثير من الأذى جزاهم الله خيراً، ولعلّ من مصلحتهم الاستكثار من بعضهم، لتبطل القاعدة المعروفة التي تقول: "الكرام قليل"
(2)
. |
وطال الأمر وران النوم على عيني فالتفت [أريد]
(3)
شجرة أستظل بها، قاتل الله أرضاً هناك صحصحاً لا تجد فيها ما يظلل النملة لو أرادت المقيل وهي بين "الفريش" و "المسيجيد"؛ بلى هناك "المرخ" ولكنه على عظمه "كالرجل الطرير" كما يقول العباس بن مرداس يروق العين، ويحسب حسابه، وهو دون هذا كله
(4)
، وخفت أيضاً -وكنت في ظهيرة ملتهبة- أن يضطرم بي فأغدو شهيداً وما بي خوف الموت، ولكن ما الجدوى من استعجاله بهذه الصورة الشنيعة؟! فليأت على مهل فما منه بد "والمرخ" تقول كتب العرب النباتية عنه: إنه شجر رقيق سريع الالتهاب يقتدح به فأنا محق في الخوف منه، إلى هذا الحد الذي لا تسيغه الشجاعة -على أني لم أدع الشجاعة بعد- ولهذا هربت منه جهدي، وفضلت أن أقف في الشمس هكذا كأني ديدبان، أو كأني على التحقيق "عبَّاد الشمس" الذي يدور معها أينما دارت، ولكن فرج ربك قريب فضرب النفير وارتحلنا. |
وكلما اقتربت من "المدينة" كثرت الجبال والهضاب كثرة عجيبة فكأن الجبال هناك تزيد ولا تنقص، وتأخذ في الكثرة والقوة، لا تعتورها قلة ولا يطيح بها ضعف. |
ومما لا أستطيع كتمانه أن المدينة كانت أحسن بكثير من الصورة التي تمثلتها لها في ذهني؛ فما كنت أظن أنها مستبحرة في العمران إلى هذه الدرجة، ولو أمهل الله للترك قليلاً لجاءت آية في العمران والمدنية والتقدم، فقد كانوا يعنون بها أكثر من غيرها.. ولما مدت سكة الحديد من سوريا إليها كادت أن تندمج في سوريا كما أخبرني الثقات، وكانت تتصل بالعالم عن طريق سوريا مباشرة، وتوسعت مساحتها وتحسنت طرقها، وترامت أطرافها، وتطور نظام الهندسة فيها كما نرى الآن في "المحطة" التي بإزاء باب "العنبرية". وكان اعتمادها في جل مرافقها الحيوية على الشام، وكان الشام يمدها في القطارات الغادية والرائحة بالمؤن والبضائع والذخائر والزوار والسواح، وهكذا بسبب حركة النقل واستمرار المواصلات كادت تأخذ طريقها إلى المكانة العالية المرموقة في الحضارة والتمدين والرقي. |
|