شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مشاهدات في المدينة (1) (1)
(ذهبنا زائرين وأبنا معتمرين والآن وقد انتهى كل شيء ولم يبق من ذلك كله إلاّ ذكريات علقت بالذهن واستقرت فيه فإني أثبت هنا بعض ما شاهدته في غير ترتيب ولا تسلسل).
كانت سيارتنا "اللوري" أي الكبيرة من ذوات الثمانية السلندرات ولكنها لا تشتغل إلاّ بأربع، وكانت "تُعَشَّقْ" باستمرار؛ بل ما كانت تمشي شبراً واحداً إلاّ "بتعشيق" وسواء عندها الجبال والسهول والحزون والوعور، وهذا هو السر في أنها كلفتنا من "البنزين" ضعف ما زودتنا به الحكومة أو يزيد. أما في الرمل فشأنها عجيب، فما تكاد تقع في عرق ضئيل من الرمل القليل حتى تغوص فيه إلى أذنيها -إن صح أن لها أذنين- وهنا يتقلب الراكب مركوباً ولا نخرجها منه إلاّ بعد جهد جهيد وعناء شديد، وقد فهمت "الجاذبية" التي قال بها "إسحاق نيوتن" عندما رأيت السيارة تلتصق بالأرض الدمثة فما تتزحزح إلاّ بشق الأنفس، وكنت من قبل في شك مريب من جاذبية "نيوتن" ودافعية "الزهاوي" (2) حتى حققت التجاريب أولاهما..
ووصلنا جدة ولست أميل إلى المدن التي تقع على الشواطئ بسبب رطوبة أرضها، ورحنا منها عشياً، ومررنا بذهبان (3) غير معرجين عليه وتناولنا عشاءنا في "ثُوَل" (4) ولم نعرس إلاّ في "رابغ" وهذه أحسن المحطات كلها من حيث سعة العمران وكثرة النخيل، وبكرنا صباحاً فأدركتنا القيلولة في "مستورة" (5) ، ولعلّها خير المدن الساحلية من حيث موقعها؛ فهي تقوم على رأس تل من الرمل، ومستورة هذه يقول عنها المستشرق الرحالة "شبرنجر": إنها هي "الأبواء" (6) مثوى آمنة أم النبي الكريم عليه السلام في رواية تناقض الرواية الأخرى التي أوردها الطبري في تاريخه، وهي أنها دفنت بمكة (7) ، وليس عندي من الدراية التاريخية ما أستطيع بها دحض رأي شبرنجر أو إثباته فأحيلها إلى مؤرخينا الأفاضل: حسين باسلامة (8) ، وعبد القدوس الأنصاري، محمد سعيد عبد المقصود (9) .
ومن مستورة مررنا بأبيار الشيخ وواصلنا السير، فلم نبت إلاّ في أبيار ابن حصاني (10) ، ومنها مشينا وقيّلنا بالمسيجيد بعد مرورنا بالشفية (11) ، ثم ركبنا فمررنا بالفُرَيش (12) ، ولم نصل المغرب إلاّ في أبيار علي، وهي ذو الحليفة التي صلى فيها الرسول صلى الله عليه [وسلم] (13) صلوات العصر فالمغرب فالعشاء فالفجر في ذهابه إلى مكة يوم حج حجة الوداع، وقد بُنِيَ على مصلاه مسجد يصلي فيه الناس دلالة على ذلك الأثر الطيب، وبزغت الشمس فركبنا وشققنا وادي العقيق الذي طالما تغنى به الشعراء، ويسمى الآن إلى اسمه هذا "الحسا" ويختص الاسم الأخير بمجرى الماء في جانب الوادي؛ أما اسم "العقيق" فيطلق عليه كله، وشاهدنا الآثار والأنقاض تقوم على جانبيه، و "الجمَّاء" تلك الهضاب الحمر المتلاصقات على شمال الرائح إلى المدينة أو الجماوات -في رواية أخرى جماء تضارع، وجماء أم خالد، وجماء العاقر- ومن أراد التفصيل فليراجع معجم البلدان في مادة الجيم والميم وما يليهما (14) وإلى واحدة من هذه الجماوات يشير "أبو قطيفة عمرو بن الوليد" في قوله:
القصر فالنخل فالجماء بينهما
أشهى إلى القلب من أبواب جيرونِ
إلى البلاط فما حازت قرائنه
دور نزحن عن الفحشاء والهونِ
وجيرون هي دمشق عاصمة الخلافة الأموية الإسلامية يومئذ، وما ألهمه هذا البيت الجميل [إلاّ شوقه] (15) المستعر، وقلبه الملتاع الذي يخفق بين جوانحه بالحب والحنين إلى مأرز الإيمان.. وإنه لمحزن جداً وموجع للقلب وشديد على النفس أن نرى عبد الله بن الزبير ينفيه إلى الشام فيقيم أمداً فيها يحن إلى الوطن ويشكو الغربة ويستعطف ابن الزبير بقطع من الشعر جميلة عذبة تفيض بالسحر وتذكر بالأوطان كل منتزح عنها مشتاق إليها، حتى إذا رق له ابن الزبير وأذن له بالعودة يدركه الموت في طريقه قبل أن يرى المدينة بعينيه الدامعتين.. ومن يريد أن يتزوّد من شعره ويعرف عنه شيئاً فليقرأ الأغاني الجزء الأول (16) .
دخلنا المدينة وهبت علينا النسمات العذبة، وكانت هي الأمنية التي تتلجلج في النفس منذ زمان طويل، وها قد تحققت فلنحمد الله على نعمته السابغة ولنستزده منها، فهذه الزيارة المباركة ليست من ضآلة القيمة وضعف الشأن بحيث تنطوي في ألفاف الماضي فلا تستعيدها الذاكرة إلاّ بعد نصب، ولا تتمتع بها النفس إلاّ بعد عناء، ولكنها أبداً أمام القلب أينما توجه، وفي قرارة النفس حيثما تلفتت؛ فللقلب حين تطيف به متعة لا تحاكيها متعة، وللنفس منها نهل وعلل يكران فما تزداد النفس إليهما إلاّ شوقاً ملحاً وصبوة طويلة.
ومتّعنا النفوس الظامئة بالوقوف على الجدث الطاهر المطهر، وكان "المزوّر" -كالمطوف لفظاً ومعنى- يتلو السلام المأثور ويتابعه الرفاق وراء كل كلمة، وقد اعتراني من رهبة الموقف ما حصرت به عن التكلم بأي حرف، فوالله الذي خلق فسوى لقد وقفت عليه لثالث مرة فما انطلق لساني ولا استطعت أن أعبر عما جاش بخاطري آنئذ من ذكريات تجول في النفس وليس لها منفذ إلى عالم الألفاظ والمعاني والإشارات.
وفي الرابعة استطعت أن أخفف عن نفسي فقلت كلمات لا أذكر منها الآن شيئاً، ورددت في سري هذين البيتين اللذين كتبا على أسطوانتي الحجرة الشريفة الأماميتين:
يا خير من دُفنتْ في القاع أعظُمُه
فطاب من طيبه، القاعُ والأكمُ
نفسي الفداء لقبرٍ أنتَ ساكنُهُ
فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرمُ (17)
أستغفر الله ماذا؟ العفاف والجود والكرم فحسب! لقد دفنت كل الفضائل العالية والشمائل الطيبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبق مع الناس منها إلاّ رموز يهتدون بها ويشيرون إليها.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :514  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 70 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور سعيد عبد الله حارب

الذي رفد المكتبة العربية بستة عشر مؤلفاً في الفكر، والثقافة، والتربية، قادماً خصيصاً للاثنينية من دولة الإمارات العربية المتحدة.