ما يخالف
(1)
! |
(أخانا)
(2)
سعد الحميدين، قد أكثر إلحاحه علينا، ولولا أن الله نهانا بقوله تعالى: وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ
(3)
.. لكان لنا معه شأن آخر.. |
.. وماذا تريد أيها الرصيف العزيز.. وماذا يريد قراء "الرياض" من شخص أناف على الخامسة والسبعين، قد أناخ الدهر على ذهنه بكلكله وأردف بجرانه.. هل يريدون ما اعوج وما اعتدل..! |
إذن فلست مسؤولاً عن كساد جريدتكم الموقرة.. ولكن.. "ما يخالف!". |
.. "وما يخالف" هذه، فاتحة رسالة كنت قد وجهتها لأحد الزملاء فانظروا ماذا وراء هذه الكلمة من مشاكل لغوية واصطلاحات دارجة.. وغير دارجة، وما فتحت من أبواب بمجرد بحثها. |
وقد رأيت نشرها.. أولاً لأنها سببت لي بعض الحرج ذلك الوقت مع صديقنا.. وثانياً، لأضع أمام أبنائنا أدباء الشباب مدى المعاناة التي يجب أن يهتم بها كاتب الكلمة.. مهما كان معناه، وأنها ليست بالأمر الهين، حتى تلقى على عواهنها.. وأن كلام العربية كله، يحمل كثيراً من المعاني والتأويلات، وأنه لم يطلق العرب -خاصة في الجزيرة العربية- كلمة إلاّ ولها مدلولها ومفهومها، وإن لم يتوفر لها ذلك فستكون دخيلة، ولست أقصد -وأيم الله- أن أستعرض ثقافة معلوماتي ولا سعة اطلاعي، فلا زلت قارئاً لاهثاً وراء الكلمة. |
يا أخانا.. |
لقد قرأت في سطوري ما لم أعنه.. |
وفهمت ما لم أقصده، ولم يخطر ببالي عندما بعثت إليك للتفكه تلك الكلمة. |
إن كلمة "ما يخالف" شائعة بين الجماهير، وهي ترادف أو تعني لا بأس، لا خلاف، موافق، أمرك، لا مانع، وما إلى ذلك. |
ولكن الفاعل فيها -نحوياً- مبني على مجهول، والضمير فيها عائد إلى غائب كما ترى. |
وقد أردت محض الدعابة في الإشارة إليها هناك، باعتبار أنها غلطة لفظية شائعة بين العامة والخاصة. |
أما السلوك والأخلاق في الناس أفراداً أو جماعات، ليست تهمني ولا أنا منها على مقيم مقعد في الاكتراث، فإن مقاييس الأخلاق ومدلولاتها لا تزال ذات غبار ونار واشتجار من أيام أرسطو في اليونان، إلى عهد الغزالي والماوردي في الإسلام، إلى أن دارت معمعتها من مكيافلّي في إيطاليا إلى أيامنا هذه بين برتراند رسل في إنكلترا ودي بوفوار وسارتر في فرنسا! |
ولست أريد أن أهوِّل عليك هنا بسعة معلوماتي، ولكنك -أصلحك الله- سللت سيفها المضحك في وجهي وذكرتها في رسالتك، وأنا لم أذكرها مطلقاً في كلمتي إليك، ولا استحضرتها في ذهني أبداً عندما كتبت إليك، وكل ما أردته من باب الاستملاح أن أشير إلى النكتة (النحوية) في الفاعل المجهول لعبارة ما يخالف المعروفة، وإلاّ فليس من السهل يا أخي أن يُتَحَدث في السلوك والأخلاق بمثل بساطتك، فإن كثيراً من الأخلاق التقليدية الظاهرة والممدوحة بين الناس لا عمق لها ولا قرار فيها، وليست من الصلابة والرسوخ بحيث يظن الساذجون! |
فالصدق -مثلاً- وهو فضيلة يصبح رذيلة إذا جلب لصاحبه أذى أو أكسبه خزياً.. وتصور زانياً مدمناً للزنا يدور في الناس، ويصدقهم القول عن نفسه، وقد وصف الرجل نفسه صادقاً.. وهو كذلك! والناس يحبون الصدق.. إنه لكذلك! فماذا تكون النتيجة؟ إنها جامعة بين السخف والحماقة والاستهتار والغفلة والضرر.. فانظر! فضيلة واحدة أدت إلى خمس رذائل شرها مستطير. |
ولو أصبح الناس كلهم رجال صدق.. أعوذ بالله.. تخيل ذلك وأوغل في خيالك إن كانت ملكة التخيل عندك جيدة.. بل لو كان الصدق وحده يكفي العالم لما كان هناك موجب لإِيجاد نقيضه وهو الكذب، وإلاّ فكيف نعرف أن هذا هو الصدق؟ |
كيف تفهم أن هذا هو النور لو لم يكن هناك ظلام؟ وأن هناك شبعاً لو لم تذق الجوع..؟ |
إني أيسِّر أداء المعنى لك، على أنك لو تعمقت في النظر لعلمت أنه ليس هناك نقائض أو أضداد بالمعنى الحقيقي التام.. وإلاّ فأين تذهب الظلمة عندما تسلط عليها نوراً؟ إن ذراتها تكمن في النور نفسه، ففي الوقت الذي تطفئ فيه النور تتولد الظلمة حالاً! |
فليس في الكون، ولن تجد شيئين مختلفين كل الاختلاف لو تأملت جيداً.. وهذا هذيان! ستقوله! أو تحدث نفسك بذلك.. ولكن أنت السبب سامحك الله، وقاتل الله "ما يخالف" المنكودة فإن فاعلها التعس لا يزال مجهولاً، ومع ذلك فقد أغراني هذا "النكرة" الذي لا يتمتع بأداة "التعريف" بمثل هذا الهراء. |
وقد عدت بك الآن إلى مسألة نحوية.. فلا تدخلني بعد ذلك في سراديب الأخلاق من فضلك، فوالله لقد سقتني إليها كرهاً، وبعثت إلي بمارد رجيم منها، ولقد أرعيتني نباتاً لم أتكلف حمل المطر إليه من عندي، فرعياً لك وسقيا؟ |
|