| سحابة على خندمة
(1)
|
| أخي عبد الله
(2)
، |
| لقد جاءني على "فرخة العمانية" النجاب الوثيق "ساطي الروقي" برسالتك ذات الصفحات الممتعة.. وعندما أناخها على باب الدار المواجهة لخندمة، وقد تلوتها مسروراً على كثرة أعبائي من الأحزان. |
| نحن كلنا من عباد الله، ومن عبيده، فهناك فرق في الجذر اللغوي بين العبد وبين العابد. |
| فنحن إذاً عباد الله وعبيده على كل الاشتقاقات، وقد نعود من "حماميزه"، إذا انعكست المقاييس
(3)
. |
| قلت في ما سلف: إني أعيش في دوامة من القلق النفسي، إلى جانب خواء في القلب والروح. |
| ولست أحسد هؤلاء الفرحين المرحين على كثرة انتشارهم بين جوانب الأرض وطبقات السماء؛ ذاك لأني في شغل بنفسي عن غيري، ومن تضنيه نفسه فلن يبالي بما تلقاه نفوس الآخرين. |
| من يصدق أني أصبحت غولاً مسعوراً لا على العالمين، ولكن على نفسي؟ |
| ومن يصدق أن نفسي بذاتها عادت تفسد كل مقاييسي في الحياة؟ |
| أما أنا فقد صدقت ووضعت ختمي على أول "المحضر" وآخره. |
| وماذا بعد الخامسة والخمسين من عمر فاسد كاسد؟ |
| من قال إنها خمس وخمسون فقط؟ |
| إني أشعر وأذكر -ربما- أني شهدت "نوحاً" وهو يصنع سفينته، وأني ركبت فيها مع آخر زوج من "الفئران" جنباً إلى جنب، ولكني نسيت إلى أي جبل رست فيه تلك السفينة. |
| وترامت دهور، وتطاولت عصور، وفقد حسين سرحان ذاكرته، فلم يعد يجترها كاجترار البعير إلاّ في أواخر هذا القرن الهجري. |
| لقد كتبت الهراء الكثير، ونظمت شعراً ليس بالجيد، ولا بالمثير، وذهب عمري هدراً. |
| ولو رجعت إلى دفتر حساباتي لوجدتها تنتهي كلها بأصفار يمتزج فيها الأشرار بالأخيار... |
| فيا أبا محمد.. |
| إني لا أبالي بتعرية نفسي عن الأقمصة المزيفة، ولا أحمل سواكاً لأسناني النخرة الكالحة. |
| دع الناس يحملون على أجسامهم أضعاف وزنهم من الملابس الحريرية والصوفية.. |
| دعهم يا سيدي.. إن هذا زخرف لا تبهج به الحياة حتى في أقل ديدانها.. |
| لا تظنن أني زاهد كسفيان الثوري، أو كابن المبارك، كلا يا سيدي، ولكني لا أرى في كل الدنيا ما يستوجب الطمع. |
| كسرة خبز مع قليل ماء، فيهما كل التبلغ، والدنيا كلها محسوبة على هذين العنصرين الأساسيين مهما اختلفت نماذج الأطعمة بعد ذلك؟ |
| وبعد فيا صديقي: |
| دع السحابة الدكناء على قمة خندمة.. تهبط مرة واحدة، فلن تبلغ تخوم الأرض، والسماء لا تنعزل عنها بمجرد هبوطها.. |
| هذه هي تهبط.. السحابة.. كان فيها برق يضيء جوانبها المظلمة.. |
| ذروة خندمة لم تنكسر، مع هبوط الأمطار، واستمرار العواصف. |
| قمتاه كسناني رمح، وقد غشاه الغمام، وبينهما مسلك الماء ينحط قليلاً، ومن ورائه بطحاء قريش. |
| لقد جاءت السحابة من البحر ثم انتهت إلى البحر، وبقيت الصحراء على حالها يباباً.. كيف؟ |
| أليس هذا خيراً؟ |
| قد نقول: بلى.. |
| وإذا عدنا إلى عباد الله وعبيده وحماميزه، فلنسأل الله أن يوفقنا، وهي "قطمة" لكلام كثير. |
|
|