شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
وكيف كان ذلك (1) ؟
هذه عبارة خالدة تقرؤها عشرات المرات في كتاب كليلة ودمنة، ولست أدري هل هي منقولة بالحرف عن النسخة الأصلية باللغة السنسكريتية التي عرب عنها هذا الكتاب، أم هي عبارة استلطفها ابن المقفع، فأخذ يكررها مستفهماً كلما أراد الراوي أن يسرد قصة حديث.
ولا يعدم كل إنسان أن يردد هذه العبارة في حياته آلاف المرات في كل حديث يديره مع إنسان آخر، أو مع أناس كثيرين؛ فهو يقولها لأفراد عائلته، ويقولها للأقربين والأبعدين، حيثما أراد تفصيلاً مجملاً، أو شرحاً موجزاً، أو زيادة فهم، أو غزارة استطلاع.
وعهدي بعيد جداً بقراءة كليلة ودمنة، وبالرغم من أني -مثل سواي- أردد هذه العبارة أيما ترديد في الأحاديث العامة والخاصة، ولكن هذه العبارة لم تقترن في ذهني بحكايات "بيدبا" إلاّ هذه المرة فقط، فقد تذكرت الشيخ الحكيم، وتذكرت عشرات من الطيور والوحوش التي تضطرب بها أجواء حكاياته الرمزية الخالدة.
وألفيتني أعيش مرة أخرى بين مخلوقات الله من غير الإنسان والجماد، وأفيض عليها أثواب آدميين مثلي -وما المانع؟- وأسهب مع تلك المخلوقات في أحاديث وأقاصيص تدور على نفس المغازي والأهداف التي توخاها شيخنا الفيلسوف المسكين "بيدبا" قبل عشرات القرون والحقب منذ أعصار طوال.
فهات رجلاً عاش قبل مائة عام مثلاً، وقل له إن في الدنيا بلاداً يسكنها أهلها منذ مئات السنين، وقد قام العالم قومة واحدة، وأولجوا على أهل هذه البلاد دخلاء، أدعياء، فما زالوا يتكاثرون، حتى أقاموا دولة منهم -وما يزالون أقلية- على رغم أنوف أهل البلاد الأصليين.. وقام العالم مرة ثانية فأقرّ هذه الدولة واعترف بها رامياً بحقوق أهل البلاد عرض الحائط..
فإن هذا السعيد الذي مات قبل مائة عام سيفغر فاه من الدهشة، وينعقد لسانه من الارتياع، ولا يملك إلاّ أن يقول -إن كان ما يزال محتفظاً بأعصابه:
وكيف كان ذلك؟
فإن فقد رباطة جأشه، فإنه سيفضل أن يعود إلى قبره إرقالاً!
واإتِ بآخر، وقل له: إن العالم تكفل في ضمانة دوله الكبار أن يعيش الناس في أمان واطمئنان على عقائدهم ومبادئهم وحرياتهم.. وقد أرادوا التوسع والتحذلق، فقسموا الحرية الواحدة إلى حريات أربع في ميثاق يسمى "ميثاق الأطلانطيق"، ولا تدعه يفهم أن هذا الميثاق ابتلعه الأطلانطيق، فإنه سيعرف هذا ضمناً من بقية حديثك.. ثم قل له بعد ذلك: إن الدول الكبار بعد أن انتصرت واستتب لها الأمر عادت فاستأثرت بها شهواتها، وتدلت بها أطماعها، وتحكمت فيها عقول صغار يسمونها في وقتنا هذا عقول وزراء أو رؤساء وزارات أو رؤساء جمهوريات، فإذا بها تعيد حكم الإقطاع والاستعباد والظلم من جديد في صور أفظع من صوره الأولى..
وسيقول لك: كيف كان ذلك؟ ولن ينتظر منك الجواب، فإنه سيبخع نفسه إن لم يقدر على أن يعود ميتاً كما كان.
وكيف كان ذلك؟
رمز خالد، وعبارة باقية إلى آخر زمان الإنسان، كلما تكاثرت عليه ويلاته، واستفحلت كروبه واشتد عليه جور أخيه وابن عمه وفزع مذعوراً مستطار اللب إلى عدل لا يجده ونَصَفة لم تخلق له بعد.
إذا اعتبر الآري نفسه أرقى من السامي، وعد السامي نفسه أفضل من الحامي، وقيل: إن الأبيض خير من الأسود، والحر أبقى من العبد، وأولئك أكرم من هؤلاء، ولم يلجأ إلى الإسلام الذي يسوي بين الأعجمي والعربي والحر والعبد، ويقر العدل الخالص حيثما يكون، وتتساوى طبقاته أمام شريعته مهما اختلفت درجاتها؛ فإن هذه العبارة ما تزال تردد نفسها إذا لم يرددها أحد.
وكيف كان ذلك؟
أجل. كيف كان ذلك، لو كانت لنا عقول؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :366  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 57 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج