شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هذه الحرب (1)
كانت الحرب في العصور القديمة تنشب بين أمة وأمة كاليونان والرومان، وفارس والروم، وكانت تنشب بين قبيلة وقبيلة كقحطان وعدنان، وعبس وذبيان، ولكنها كانت تدور رغماً عن ذلك في حدود ضيقة وميادين معينة لا تعدوها ولا تتجاوزها إلى غيرها من الأمم والقبائل.. وما كانت الحرب تنيخ بكلكلها وترمض بشرها وأذاها إلاّ من اشترك في خوض غمارها، ودفعته الظروف والمطامع وحب الغلبة والاستيلاء إلى اقتحام صعابها وعقابها، فقد كان العرب -مثلاً- يسمعون بالمعارك الطاحنة الدائرة بين قيصر وكسرى، ولكنهم كانوا لا يأبهون لها، ولا يعطونها أكثر مما تستحقه من الاهتمام، فهم يتحدثون عنها ويتنبأون بما سيحدث فيها، ويتوقع فريق منهم النصر للفرس، كما يتوقع فريق آخر النصر للروم، فيعدد هؤلاء ما للروم من العدة والعدد والحضارة، ويأخذ أولئك في ما للفرس من مدنية، وما يتصف به جنودهم من البسالة والإقدام. وكانوا كذلك -وهذا مثل أيضاً- يأسون لإخوانهم العرب الذين ترغمهم ظروفهم ومصالحهم على مناصرة كسرى أو مساعدة قيصر كالمناظرة والطائيين هناك، والغساسنة واللخميين هنا. كذلك كان العرب يتحدثون عن حرب شديدة بعيدة منهم غريبة عنهم، وكذلك كانوا يخوضون فيها خوض العليم بأطوارها البعيد عن أخطارها الآمن على سربه المستقر في عقر داره القانع ببلغته من العيش الذي لا يرجو -أبداً- إلاّ مطراً هاطلاً تحيا به أرضه وترعى فيه ماشيته، وإلاّ ربحاً يسيراً في بضاعة أزجاها من مكة إلى دمشق، أو من المدينة إلى اليمامة، أو من الطائف إلى صنعاء.
كذلك كانت الحروب في ما مضى من الأزمان، أو هذه صورة عامة لها يوم كانت الدنيا غيرها الآن، ويوم كان الناس سذجاً بسطاء غير هؤلاء الناس. أما الآن فقد تغيرت الدنيا تغيراً تاماً -أو انقلبت على الأصح- وأصبحت الحروب القديمة التاريخية التي كان القدماء يفزعون من مجرد ذكرها ويستهولون ما يقع فيها، أصبحت اليوم في نظر الإنسان الحديث وكأنها معارك صبيانية أبطالها أطفال، وأسلابها دمى وألعاب، وسلاحها خشب وتراب.
أصبحت الآن الدنيا كلها بيتاً واحداً، وصار الناس قاطبة أسرة واحدة، وعلة ذلك كله تقدم المواصلات وتعميمها وكونها بلغت الغاية القصوى في السرعة والتقريب والسهولة؛ فالحرب في قارة واحدة -كأوروبا- تهدد الأربع القارات الأخرى بشر مستطير، والمجاعة التي تحدث في أميركا -مثلاً- هي مجاعة تنذر العالم كله بأوخم العواقب، وتوتر في العلاقات بين دولتين فقط يستتبع توتر العلاقات بين دول أخرى لا عداد لها، وخبر يقع في بلاد نائية -في ساعة واحدة- يتعالم به الناس [أجمعون] (2) في الساعة التي تليها إن لم يكن في الساعة نفسها.
فليست الحرب دائرة بين دولتين، ولكنها أعمّ وأشمل وأخطر أثراً وأبعد مدى وأهول عقبى من أن تكون كذلك، وإلاّ فلماذا سميت الحرب العالمية؟ حيث لم يخضها فعلاً غير دول أوروبا! إنها سميت بهذا الاسم، لأن معاركها تدور في أوروبا وجزء من أفريقيا، ولكن أفريقيا كلها وآسيا وأستراليا وأميركا تتقلب جميعاً على هذا الأتون المستعر.
فهذا البحر الذي يحيط بجزيرتنا من أكثر جهاتها هو في الواقع المتنفس الوحيد لنا، ولكنه يأخذ أنفاسنا مكظوظة مخنوقة ولا يعطينا بدلاً منها هواء جديداً صافياً نتنسمه أو نستروح به.
وبلادنا ليست بالبلاد الصناعية ولا الزراعية حتى نستطيع أن نتكفف بالعيش في كنف هاتين المزيتين، ونحن أمة مستهلكة بكل ما في كلمة الاستهلاك من معنى.. بيد أنّا ليس لدينا ما ننتجه أو نصدره حتى تتعادل كفتا الميزان، ولن تتعادل هاتان الكفتان -في ما أحسب- إلاّ بعد زمان طويل وعناء عظيم.
فنحن نستورد كل شيء من الخارج: ضرورياتنا ومنها الأطعمة والملابس، وكمالياتنا وفيها الأثاث والرياش، نستورد ونستهلك، ثم نستورد فنستهلك، ولا توسط بين الحالتين، لأنا مضطرون مرغمون بعوامل شتى من البيئة والحاجة والظروف أن نأكل لنحيا، ولا يمكن أن تتصور حياة بلا أكل لا في عالم البهائم ولا في عالم الطفيليات، ومضطرون أيضاً أن نكفل الهناء في عيشنا، فإن لم يكنه فالكفاف، فإن لم يتيسر لا هذا ولا ذاك فلا أقل من التبلغ باللقمة المتاحة، حتى تنجلي هذه الغمة وينحسم هذا النزاع على خير أحواله أو على شرها أو على المزيج من شر وخير.
فنحن إذن آمنون جداً من الحرب الإيجابية، وأعني بها حرب القتل والسحق والتدمير، ولكنا لا نأمن الحرب السلبية، وهي المجاعة والحصر وما إليهما، والبحر قد ضرب عليه بالأسداد، وأصبح كله أو جله تقريباً منطقة تميز -ولا تشتهي أن تميز- بين الباخرة التجارية والحربية والمحايدة والمقاتلة وأعلام الدول محاربها ومحايدها على السواء انطمست منها الألوان وامحى فيها الشعار والإشارة في نظر هذه الآفات التي تمخر البحر أو تسبح في الجو، وإن الباخرة التي تصل إلى غايتها آمنة سالمة لتحسب نفسها قد بنيت من جديد ويحسب ركابها أنهم أنشؤوا حياة أخرى، والسفينة التي تجري في اليم إلى جهة بعيدة أو قريبة لهي في شك -كاليقين- من النجاة والوصول بالسلامة.
وإنا إذ نخشى الحرب لنخشاها بأشد ما يخشاها المحاربون أنفسهم، فلسنا محاربين حتى نخاف الانهزام أو نؤمل الانتصار فنمنى في الأولى بالذل والهوان، ونرجو في الثانية السيادة والأسلاب، كلا! فلسنا نخشاها على هذه الوتيرة، إذن لهان الأمر، وكما يقال توقع البلاء بلاء أشر منه، ولكنا نخشى الجوع والفقر، نخاف أن يرتد العزيز ذليلاً، وأن يصبح الموسر -بين غمضة عين وانتباهتها- وهو معدم كل الإعدام، وأن يموت الفقير من الطوى لا يجد من يعطف عليه أو يقوم بأوده، وأن يمسي المترف لا يجد بعد [الأفاويه] (3) والألوان إلاّ الخبزة والملح، وأن يرجع العامل هو أعطل من صخرة في فلاة..!
وهؤلاء الحجاج هم المورد الوحيد الذي يجب أن نعده كذلك ضربة لازب، ومع ذلك يجب أن نفكر تفكيراً جدياً في طريقة أخرى من طرق الإنتاج والعمل.
فنحن يوم نخاف الحرب لا نخافها خيفة الجبناء ولا المتواكلين، ولكنا نخافها بالغريزة خيفة الحي الذي يريد أن يحيا ويتنور غايته ويستهدي سبيله بين هذه الغياهب الداجية والمجاهل المطموسة والنزعات المصطرعة والخطوب المتشابكة.. وهذا الخوف هو دليلنا إلى الشجاعة والعمل، وهذا التوجس هو وسيلتنا إلى التفكير والاستبصار، ومن لم يخف هذا الخوف لم يعرف كيف يتوقى العواقب ويتنكب الأخطار ويهدى إلى السلامة والنجاح.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :445  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 53 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور محمد خير البقاعي

رفد المكتبة العربية بخمسة عشر مؤلفاً في النقد والفكر والترجمة.