ذكريات عن الشيخ محمد العلي التركي
(1)
|
منذ نحو سنة 1347هـ إلى ما بعدها بسنين قليلة، كنت أنشد التعليم بعد أن خرجت من كتاتيب المعابدة من أمثال باحميش والشيخ عوض وأحمد الكابلي. |
ثم رأيت وأنا في نحو الرابعة عشرة من عمري أن أدرس في الحرم.. وكان الشيخ محمد العلي التركي -يرحمه الله- يدرّس في الحصباء الواقعة أمام باب السلام... وأحياناً، يدرس في الرواق الواقع أمام باب الزيادة. |
كان يدرّس فنوناً من التفسير، وشروحاً لبعض الأحاديث النبوية، وأقساماً في الفرائض والفقه، إلى جانب ضئيل من العلوم العربية. |
ولقد بدا لي أن أدرس عليه، وكان هو أشهر مدرّس في الحرم الشريف... فبدأت دراستي عليه منذ أن كان في رواق باب السلام... إلى أن انتهى في رواق باب الزيادة... وكانت حلقته تكتظ بالطلبة، والمريدين، والمنتفعين بما يأخذون عنه من الفوائد والطرائف، فلقد كان بحراً ثجاجاً، وكان أشبه بالسراج المنير في كل ما يقول أو يعمل... |
لقد كان نسيجاً وحده: زهداً، وورعاً، وعلماً... ثم عمقاً في علمه... لقد كان حقاً... آية من آيات الله -تغمده الله برحمته- وأفضل عليه بغفرانه. |
وفي أيامها، كانوا جماعتنا أصدقاء له، منذ زمن قديم، من أمثال -جدي لأمي- عبيد الله بن سرحان، وأبي علي بن سرحان وأخوالي، وأعمامي... وعمي حمود بن محمد بن عيد الرويس، وعمي جري بن سرحان.. لقد كانوا من جلة أصدقائه. |
ولكن... أين كان يقيم هذا العالم الجليل، الفرد الواحد؟ |
لقد كان يقيم في رباط قديم، في شارع باب الزيادة.. إلى اليمين للخارج منه، إلى سويقة... وإلى الشمال للداخل منه إلى الحرم.. كان رباطاً متآكلاً، عتيقاً... وكان لا يملك منه إلا غرفة واحدة، بالغة الضيق، وكانت دورة المياه مشتركة. |
وكان يزاحمه في كل تلك الغرف عشرات من الجنسيات: من هنود، وسنود، وجاوه، وأتراك، وأفغان، وكان لا يتضايق بهم، بل كان يحدب عليهم بالستر ويخدمهم، ويرأف بهم.. كان لهم، كما لو كان خادماً صغيراً، يقضي كل حوائجهم. وكانوا جماعتنا في كل جمعة يزورونه، فيسبغون عنده الوضوء ويرتاحون لديه، إلى أن تأذن صلاة الجمعة.. ثم يخرجون الى الحرم الشريف، ويقضون واجبهم الديني أتم قضاء. |
ولقد لبثت عدة أشهر، وأنا أدرس على يده عدة دروس دينية في مختلف التفسير والحديث، والفرائض والسنن. |
وفي يوم من الأيام التمعت عينه بمثل ومض البرق، وقال لي: ألا تدرس في الفلاح؟ |
فقلت له -بسذاجة طفلية بالغة: يقال يا عمي، إنها تُدرس فيها دروس دنيوية من أمثال: الجغرافيا، والفلسفة، والهندسة، وما إليها. |
فاستضحك قائلاً: وماذا في ذلك؟ إن هذه علوم ستحتاجون إليها بعد أمد يطول أو يقصر.. وكان ذلك آخر العهد به.. فقد آثر أن يستوطن في المدينة المنورة ويعتكف فيها.. وقد كان.. إلى أن صلينا عليه في جمعة عشرين من شهر جمادى الثانية عام 1380هـ في المدينة المنورة.. وتلك من تمام نعمة الله عليَّ -بعد غياب نحو أربع وعشرين سنة عن المدينة- مصادفة جد كريمة. |
ولم أكن أعلم أننا نصلي على الشيخ محمد العلي التركي إلى أن كتب عنه بعد أيام صديقنا الأستاذ محمد حسين زيدان في جريدة البلاد، وقال إنه صليت عليه تلك الصلاة في أغلب مساجد المملكة العربية السعودية، ولقد ترجمه الأستاذ زيدان، فأحسن ترجمته، وأسبغ عليه ما يستحقه من الثناء
(2)
، وكان من حسن حظي أني صليت عليه في المسجد النبوي، من حيث لم أشعر. |
تغمده الله برحمته، وأسبغ عليه من شآبيب رضوانه. |
|