الدكتور زكي مبارك
(1)
|
قبل نحو شهر توفي بمصر الدكتور زكي مبارك
(2)
، وقد كانت حياته الأدبية تقترن بفترة خاصة ظريفة في الأدب العربي لا تقترن بها أو تحاكيها أي حياة أدبية أخرى. |
إن للدكتور زكي مبارك شخصيات متعددة، كل شخصية منها تزخر بألوان الفنون والفتون، وقد كان يرحمه الله يجمع هذه الشخصيات كلها في مسلاخ واحد هو مسلاخ الإنسان الفطري الأصيل، أو على الأصح مسلاخ الفنان الذاهب بنفسه وأطواره إلى أبعد من كل مدى محدود. |
وما من وصف يصدق عليه كل الصدق إلا أنه كان نسيج وحده في الجرأة والصراحة وصحة التعبير إلى أبعد حدود المغالاة، وكانت تنثال عليه السهام من كل صوب، فكان يقابلها مقابلة واحدة لا تتغير، وهي التحدي... التحدي الصادق الساخر... على أن التحدي هنا ينسج خيوطه على ضروب من العزم والتصميم والسخرية... ثم -وهذه أعجبها- البراءة، وهي براءة تجمع إلى الطفولة عناد الصيد الأجاويد من الرجال. |
وحياة كل إنسان عرضة لكل قول، وليس عندي اعتقاد صحيح بأن هناك حياة صادقة صحيحة لأي إنسان، مهما كان مكشوف الجوانب لكل قلم، ولكل لسان. |
إني أذكر جيداً أول عهد التقيت فيه بالدكتور زكي مبارك.. كان ذلك قبل ما ينيف على عشرين عاماً.. وكنت -لا كالآن- أشدو الأدب والشعر... فوقع في يدي كتابه عن حب ابن أبي ربيعة وشعره، ثم طفقت أقرأ كتبه بإعجاب التلميذ الذي لا يستطيع أن ينبس ببنت شفة أمام أستاذ عظيم، ولقد كان حقاً أستاذاً عظيماً.. وليقل القائلون ما شاؤوا.. فإني إنما أعبر عن رأيي الخاص. |
لقد قال لي -قبل سنين- الصديق الأديب الأستاذ محمد علي مغربي -أتراه ما يزال؟- إنه لا يحب زكي مبارك ولا يقرؤه، فقلت له: بالعكس أنا أحبه وأقرؤه دائماً! ولست أدري هل يذكر الأستاذ أو لا يذكره، فقد قاله لي بالطائف أيام كان سكرتيراً للأستاذ محمد سرور الصبان. |
ثم قرأت للدكتور كتبه العربية كلها -وبعضها مترجمة عن الفرنسية- ومنها: البدائع، مدامع العشاق، عبقرية الشريف الرضي، ليلى المريضة في العراق، ديوانه.. على أن هناك كتابين له يعتبران من الآثار الخالدة جداً في الدراسات الأدبية والنقدية في الأدب العربي، وهما: النثر الفني، والتصوف الإسلامي. |
والحق أن في هذين الكتابين من البحوث العميقة، والاستقصاء الدقيق، وحلاوة العرض وجمال الشرح، ما لا يوجد في كتب الأئمة الفطاحل. |
وكان له في بناء مجلة الرسالة شأن أي شأن لم يكن من كفائه أن تكتب الرسالة عنه تلك الكلمة التي كانت تحمل عليه أكثر مما تنتصف له فيها. |
ولم يزل بمصر مهضوم الحق، مغموط الجانب، في الوقت الذي فيه تتوقح بغاث الأدب بالاستنسار
(3)
، وتتطاول فيه خنافس الثقافة بالاستذآب والاستنكار! |
وللدكتور الأستاذ معارك خالدة بينه وبين أمثال أحمد أمين والرافعي والعقاد وطه حسين وغيرهم، وهي معارك للأدب العربي منها أوفى نصيب في إذكاء جذوته واستطارة شرارته إلى غير قريب. |
ثم تنكرت له الرسالة بعد أن كان أحد حملة عرشها فصارمته وقد كانت من قبل كذلك؛ فقد كان الرافعي إمام البلاغة العربية في العصر الحديث من بناتها المبدعين، وما إن أغلق الباب دونه بعد موته حتى فتح لعدوه الألد عباس العقاد. |
وكانت شر كلمة كتبت عنه بعد وفاته كلمة الرسالة، وهكذا أثبتت الرسالة أنها خير عنوان على الوفاء والاستقامة ووفاء الرسالة!؟ |
ولجأ في أواخر عمره إلى جريدة البلاغ فأخذ يكتب فيها حديثه الأسبوعي الحديث ذو شجون، وكان أشبه بحديث مبسط غير متكلف يدور بينه وبين خلطائه القلة، ولكن فيه من شوارد الذكر وأوابد الأطاريف آيات أي آيات، ولم يكن يحتشد له أو يتكلف فيه أو يجمع عليه أمره أو يمعن فيه نظره، مع ذلك كله! |
ولقد اشتهر يرحمه الله بذوق مصقول في اختيار جيائد القصائد يدل عليه كتابه مدامع العشاق، واشتهر بعد ذلك بالتحدث عن نفسه وتمجيدها، ولعل عذره في ذلك عمق إدراكه لغمط حقه في مصر، وهو حق لا يغمط حتى في بلاد البرابرة، ولكن مصر يقول فيها شاعرها الأوحد شوقي -في ما أتذكر: |
"كل شيء فيه ينسى بعد حين!"
(4)
|
|
إن للدكتور زكي مبارك أولاداً نجيبين، ولكنهم لن ينسونا في أشخاصهم شخصه المحبب الظريف المجيد في كل شيء يتصل بفنون الآداب والعلوم والدراسات. |
إن شخصيته تستحق أن تدرس أدق درس، وتستوعب أحسن استيعاب، وإنه فوق ذلك لجدير لما قدم للأدب العربي الحديث بكل تجلة واحترام وخلود. |
أسبغ الله على ضريحه شآبيب الرحمة والرضوان لقاء ما قاسى في حياته من نكد وحرمان. |
|