فقيد غال!...
(1)
|
ترجع صلتي بفؤاد بك حمزة إلى أول سنة أقيم فيها عيد للجلوس الملكي، وكنت أيامها أنظم الشعر، وكان شعري صبيانياً؛ فقد كان شعر الشادي المبتدئ الذي لا يحسن ما يقول، فإذا أحسنه بعض الشيء فقد لا يفهمه كل الفهم، فإن الإحسان اكتساباً أو فطرة غير الإحسان صناعة أو توخياً. |
وأقيم العيد بعد مقدماته في وادي فاطمة، ثم انتقل إلى جدة، وكان في الصحفيين المصريين الأستاذ المازني يرحمه الله آنذاك، وكنت قد نشرت في أم القرى مقطوعات، خير ما يقال فيها إنها تقرأ للتسلية فقط، ولكن فؤاد حمزة كان يقرؤها ويعجب لصبي في الخامسة عشرة أو نحوها ينحو هذا النحو في النظم، فطفق يتحدث إلى والدي، ويثني على ذكائي، ويتنبأ لي بمستقبل باهر في الشعر؛ ويظهر أن الأيام خيبت ظنه يرحمه الله... |
أقيم عيد الجلوس الملكي بجدة، والتقينا مصادفة فقدمني إلى الأستاذ المازني مربتاً على كتفي وهو يقول: |
انظر يا أستاذ، هذا هو شاعرنا الصغير... |
أما أنا فقد اعتبرت صفة الصغير هذه من كلمات الأضداد التي تساوي بين النقيض ونقيضه في صفة واحدة، فهي إذاً معناها الكبير، ولتفعل اللغة العربية ما شاءت. |
وتجسم في الغرور الصبياني ما شاء أن يملأه إهابي، كما يفعل هذا الغرور اليوم في كثير من الكتاب والشعراء الذين يلتمسون أسماءهم في الصحف تحت ما يكتبون كما تلتمس النجمة البيضاء في الليلة السوداء... |
وجعل -يرحمه الله- يسأل عني دائماً حيثما قابل من يعرفني أو من له اتصال قرابة بي، فهو يسأل الوالد ويسأل غيره، وملخص أسئلته عن صحتي وعملي ولماذا لا أقابله أو أتصل به، وهكذا.. |
وقبل أربع سنوات أو تزيد قليلاً سأل الوالد عني بجدة، فوجدت من ذلك سبيلاً للكتابة إليه؛ تجديداً للشوق والمحبة واعتذاراً عن عدم المقابلة، فجاءني منه خطاب بقلمه وتوقيعه، وموجزه: |
"إنه إن لم يسأل عني وعن أمثالي من الأدباء فعمن يسأل؟ وإنه يأسى للحالة العامة التي يعانيها الشباب من أمثالي.. وإنه يود لو أمكنته الوسائل أن يعمل للأخذ بأيدي الشباب، وجعلهم يتسنمون المكان اللائق بهم وبثقافتهم". |
يرحمه الله ألف مرة لقد كان نجداً شهماً.. وكان جم التواضع، بالغ المروءة، وكان مثقفاً عالي الكعب في ثقافته، وكانت نفسه كالمرآة مصقولة مجلوة حلوة. |
وللفقيد يد طولى في الأدب والتأليف، فعلاوة على مقالاته القيمة في مجلة المقتطف وفي مجلة المنهل، فإن له ثلاثة كتب قيمة هي: قلب جزيرة العرب، والبلاد السعودية، وفي بلاد عسير. |
ولقد كان يخدم الحكومة بصدق وإخلاص.. ولكنه كان يخدم الحقيقة بأصدق وأخلص، وكان مراً في الباطل، حلواً في الحق، وكان رجلاً حقاً بكل ما يقال عن رجل حق. |
إن فؤاداً لم يكن فقيد الحكومة، ولا فقيد أهله ولا بلده فقط، ولكنه كان فقيد الأدب والعلم، وكان فقيد الأخلاق المثلى والنفس العليا قبل كل شيء. |
أمطر الله على جدثه شآبيب الرحمة والرضوان، وغفر الله له ما شاء أن يغفر لعباده المؤمنين. |
|