سلام وكلام (8)
(1)
|
جهد جاهد |
قد لا يعلم أحد كما أن هذا (الأحد) لا يفيده أن يعلم، أو لا يعلم، أن المقال أصبح يجهدني.. لا من حيث فكرته الرئيسية، ولا من حيث الأسلوب والتناول.. ولكن حتى مجرد كتابته على الورق.. تجعلني في جهد جاهد وعناء ملازم، والسبب في ذلك كما يبدو لي طول انقطاعي عن الكتابة وبعد عهدي بها.. بل إن حتى مسك القلم للكتابة الأدبية عاد ثقيلاً علي، شديد الوطء، مستكره الوقع، وصرت، والله عليم بذلك، أتهرب من الكتابة وأتبرم بها، وخير حالاتي في استقبالها أني أرجئها من حين إلى آخر، وأُسوّف اليوم وأقول غداً.. وكل يوم غداً، وغداً الدهر كله كما قال أحد الحكماء، أو كما قال الشاعر العقيلي: |
نرجو غداً.. وغد كحاملة |
في الحي لا يدرون ما تلدُ
(2)
|
|
وقد كنت فيما مضى أكتب في "البلاد" السعودية وأُلاحقها بالمقالات تترى كشآبيب المطر يأخذ بعضها برقاب بعض.. وكان المقال يعدل في سهولته عندي تناول كوب من الشاي أو القهوة. |
كذلك كنت أتناول في سهولة ويسر لكل ما أكتب من نثر ونظم.. بل كان الحديث يعييني وربما لا يزال، فأما الكتابة على مختلف أنواعها وتحضير الفكر وإبداع الصور، فكنت أعملها وأنا أركض في سبيلي بلا كلفة ولا نصب ولا أي إجهاد. |
وليست المسألة مسألة إصفاء أو نضوب أو تعطيل ذهن؛ أو توقف آلة أو قلة بواعث أو هيجان نفس.. كلا.. فما أحسب أني ممتلئ بكل عوامل الكتابة وموحياتها كما أنا ممتلئ الآن.. بل إني مكتظ يكاد ينشق أديمي، مفعم تكاد أفكاري تنبع من قمة رأسي! حافل بكل ما يقال؛ وكل ما يضيق عنه أوسع مجال.. |
أداة التعبير؟ أملكها على قدري، المادة الفكرية؟ مختمرة في ذهني، طرائق الصياغة؟ أنا منها على كفاية، المواضيع؟ منتشرة في كل مكان. |
لكن ليست هذه كل عناصر الكتابة المنشودة.. العنصر الأساسي هو النفس، والنفس فقط. |
وما لم يسهل على النفس إذا لم يكن فيها، يسهل فيها إذا هو كان، أو كما قال المتنبي
(3)
. |
فإذا أسمحت النفس بشيء فما أسهل أن تتناوله -مهما كان- بإسماح، أما إذا شق عليها وإن يكن هيناً، فلا شيء في الدنيا يكره النفس على قبوله! |
حتى الزمن -وهو عامل رئيسي في كل شيء.. لا تباليه النفس ضاق أم اتسع، وطاب أم كدر إذا بدا لها أن تصنع الشيء أو لا تصنعه! |
فَبُعْدُ عهدي بالكتابة جعل نفسي تنصرف عنها كلية لمدة طويلة سالفة، حتى إذا عدت إليها قبل وقت قصير أصابني منها رهق عسير. |
وترويض جماح الكتابة أصعب من الكتابة نفسها، زد على ذلك نفساً مثل نفسي سريعة الإدبار إذا أدبرت، وبطيئة الإقبال إذا حتم عليها أن تقبل، يضاف إلى ذلك هذا القلق المحيط بجميع النفوس، وهذه الحالة الدولية العامة الآخذة بالإكظام. |
وأنا امرؤ لا أتقبل كل ما يأتيني وأجعل كل همي أن أسود البياض وأملأ الفراغ، وأزجي الهراء، وألعب في الهواء، وإلاّ لكان في استطاعتي -ولا فخر- أن أصدر وحدي جريدة يومية، أسبوعية، شهرية، سنوية إلى آخر هذه (الإيَّة) زمانية ومكانية وبرزخية! |
ولا كل موضوع عابر أو واقف أو قاعد يروق لي أن أكتب فيه، ولا كل ما ينبعث على اهتمام الناس يثير اهتمامي.. |
وعند العوام بعض الحق، لا الحق كله، عندما يسمون نوعاً من الكلام الفارغ بأنه (كلام جرائد)، فماذا نقرأ وأي فائدة يجنيها الإنسان من هذا الهذيان (البرسامي) المنشور في جرائدنا وجرائدهم؟ إنه مثل [ضروب]
(4)
من الشعر عناها المتنبي فقال: |
منه ما يجلب البراعةُ والفضلُ |
ومنه ما يجلبُ (البِرسامُ)
(5)
|
|
وإني والله ليسرني لو أن السرور وحده يكفي أن أكتب في عدد من الجرائد، وأن أشارك في النقاش والهراش، وإذا ضمنت الوقت ومادة الكتابة، فإني لا أضمن الباعث النفسي الصحيح، ولو ملكت ناصية الإجادة في التعبير فإني لا أملك الطبيعة المؤاتية السليمة من التكلف. |
ألا ترى أن بعضهم بينما هو يكتب في السياسة الدولية ويناقشها، أو هذا ما يظنه هو على الأقل.. إذا هو يكتب في تربية الأطفال، ثم إذا هو ينشر كلاماً في أسطار وأنصافها وأرباعها ثم يقول عن هذا الكلام: إنه.. ماذا؟ إنه قصيدة من هذا الذي يدعونه شعراً منثوراً!؟ |
فإذا كانت الكتابة تسهل على بعضهم إلى هذا الحد، فإنها والله عندي لمثل خرط القتاد، وإنها لتطيل السهاد وتقلق الوساد. |
وإذا كانت (حراء) قد أخرجتني من قوقعتي وجعلتني أزحف على الشاطئ المعمور أو المهجور، فلا يغرن (حراء) ذلك، فيميناً ما بعدها يمين أن كل مقالاتي التي نشرت في (حراء) ما هي إلاّ عمليات تجريبية تحت التمرين، وهي مع ذلك إعداد وتوطين وتمكين لما يتلوها إن شاء الله غير مزكّى إلاّ عند الله، ولا مستمسك إلاّ بعراه. |
|