سلام وكلام (7)
(1)
|
حضور البديهة! |
أنا أحفظ أكثر من ثلاثين ألف بيت من الشعر، ولكني أنساها، ولو طفقت أتذكرها في مظانها لما جاء على بالي ولا ثلاثون بيتاً في كل تلك الآلاف. |
ويوجد شخص آخر لا يحفظ أكثر من ألف بيت، ولكنه يتمثل بها في مناسباتها، ويستشهد بها في أوقاتها عن عفو خاطر وسرعة استحضار، وتلك هي البديهة الحاضرة كما يقولون، بل إنه انتفاع خالص بكل ثمرات البضاعة من رأس مالها إلى أرباحها، وفوق ذلك في كل أوقاتها المناسبة! |
وعشرات الألوف لا تزينك ولا تبيض من جبينك إذا كنت لا تتمثل بكل بيت من الشعر في أوانه وتستعمله في مكانه، وإذا كنت طلبته لم تجده.. حتى إذا وجدته لم تكن في حاجة إليه! |
وكثيرون ممن تسعفهم بديهتهم بطرائف الشواهد وبدائع الأمثال في حينها اللازم، بلا تكلف في التذكر ولا تعنت في البحث، وأذكر منهم على سبيل المثال (أحمد الكابلي)
(2)
تغمده الله برحمته وأموات المسلمين، فقد مات منذ نحو عامين. |
كان -عفا الله عنه- راوية باقعة، وكان غزير الحفظ، سريع النكتة، حاضر الجواب، وكان إلى ذلك فكهاً مرحاً لا يمل حديثه، وكانت تبدر منه النادرة، فكأنها سهم مسدد أصاب به المرمى فأصماه. |
وأذكر من نوادره، -وهي كثيرة- ما يقع في بالي منها الآن. |
منذ سنين طويلة كان يُفضِّل سكنى (منى) طيلة العام كله، وكان لا يلم بمكة إلاّ لأمر لازم في الفينة بعد الفينة، وكنت أنعى عليه هذه البداوة الطارئة، فيضحك، ويشير بيده إلى أقوام يفدون بمكة ويروحون، ويقول: |
سكنوا بمكة في منازل نوفل |
وسكنت بالبيداء أبعد منزلِ
(3)
|
|
ورأيته مرة يزاحم الناس ليطالع من كثب قوماً يلعبون وقد دقوا الطبول، وسلوا السيوف، وطفقوا يهزجون بالأغاني الحماسية فالتفت إلي مشيراً إلى السيوف المنتضاة وتمثل قائلاً: |
سيوف مواضي يا لؤي بن غالب |
حداد، ولكن أين للسيف ضارب
(4)
؟ |
|
وتلاحى -مرة- مع أحد الأوباش وطال بينهما الخصام، وكنت معه، وحاولت أن أكف من غربه وأهون عليه الأمر، فقال لي: لا تفعل، لقد صدق من قال: |
ولو أني ابتليت بهاشمي |
خؤولته بنو عبد المدانِ |
لهان علي ما ألقى، ولكن |
تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
(5)
|
|
وتكلم عليه يوماً أحد من كبَّرهم الوقت بالثروة والمنصب، ولم يستطع أن يسر إلي، وكنت حاضراً: |
وأجدب أرض بالرجولة بقعة |
يضام الفتى فيها.. ولا يتكلم
(6)
|
|
وغير ذلك كثير كثير. |
والحقيقة أني أحفظ هذه الأبيات، ومعها أمثالها عشرات المئات، وتصدمني أمثال هذه المواقف، وأحرج في أشباه هذه الحالات، فأنسى كل شيء، ولا يعلق بذهني أي شيء، بل تنطمس ذاكرتي انطماساً تاماً.. حتى إذا فات الوقت وانصرمت المناسبة، وحصل الاستغناء.. وانعدمت الحاجة، بدأت ولله الحمد أتذكر كل الفرائد الجياد من عيون الشعر العربي، وظلت تنثال على ذهني انثيال المال في أيدي الأنذال. |
والبديهة -في كتب اللغة- هي المفاجأة، وهي سرعة الجواب من دون تفكير، ولكن البديهة عندي -فيما أرى- هي جذوة ذهنية تنير الموقف أو تكشفه أو تصفه أو تطبق المفصل منه بلا تردد، وهي كلمة سريعة تصيب المحز. |
وللبديهة رجال، كما أن للرواية رجالاً آخرين، ولا يجمع بينهما إلاّ قلّة نادرة تضن بهم الأجيال، فتفرد بهم أو تتئم في حال بعد حال. |
|